وأما الألغاز ففي الدرهم قوله:
ومعشوق يرقص كلّ يومٍ *** ترى في وجهه أبدًا كلاما
إذا فارقته أجداك خيرًا *** ولا يجدي عليك إذا أقاما
وفي القلم قول الآخر:
عجبت لذي سنين في الماء نبته *** له أثر في كل مصر ومعمر
وقول الآخر:
وبيت بعلياء الفلاة بنيته *** بأسمر مشقوق الخياشم يرعف
يصف بيت شعر عمله في الصحراء وكتبه بالقلم.
"وقال آخر:
وما ميت ذو طعم عند رأسه *** متى ذاق من ذاك الطعام تكلما
فلا هو في الأحياء حي فيتقى *** ولا هو في الأموات ميت فيرحما
غيره:
ما رأت عيني عجيبًا *** كيراعي في الدواةِ
غائصًا يستخرج الدر *** ببحر الظلمات"
وفي الهلال قول الآخر:
ومولود شهر كان فيه شبابه *** وفي شهره أودى وأدركه الكِبَرْ
غيره:
فما وليد ربا في غير مولده *** وعاد فيه قديم السن قد نحلا
وفيه وزيادة:
ألا ربَّ مولود وليس له أب *** وذي ولد لم يلْدَه أبوان
وذي شامة سوداء في حر وجهه *** مجللة لا تنقضي لأوان
ويكمل في خمس وتسع شبابه *** ويهرم في سبع معًا وثمان"
وفي مصراعي الباب قول الآخر:
عجبت لمحرومين من كل لذة *** يبيتان طول الليل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصدًا *** وعند طلوع الشمس يفترقان
ولقي عَبيدُ الأبرص أمرأَ القيس فقال له: ألا أساجلك؟ فقال: بلى، فقال عبيد:
ما حية ميتة أحيت بموتها *** درداء ما أنبتت نابًا وأضراسا
فقال أمرؤ القيس:
تلك الشعيرة تحنى في سنابلها *** فأضعفت بعد نبت الزرع أكداسا
فقال عَبيدٌ:
ما السود والبيض والأسماء واحدة *** ما يستطيع لهن الناس إمساسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السحاب إذا الرحمان هيجها *** بث النطاف بماء المزن أنفاسا
فقال عَبيدٌ:
ما قاطعات بلادًا لا أنيس بها *** إذا ابتكرن سرى كنسن أكناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبّت عواصفها *** كفى بأذيالها للتراب كناسا
وقال عَبيدٌ:
ما ذات حكم بلا سمع ولا بصر *** ولا لسان فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمان أنزلها *** رب البرية بين الناس مقياسا
وقال عَبيدٌ:
ما مدلجات على هول ركائبها *** يقطعن بعد النوى يسرًا وامراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها *** شبهتها في ظلام الليل أقباسا
وقال عَبيدٌ:
ما قاطعات بلاد الله في طلق *** إذا استبقن ولا يرجعن قرطاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني يتركن الفتى ملكا *** دون السماع ولم ترفع له راسا
فعجب عَبيدٌ من بداهة أمرئ القيس وقال له: ما أرى أحدًا يخوض تيّارك. قالوا: فكان امرؤ القيس مدلاّ بنفسه لا يرى لشاعر فضلًا حتى لقي التوأم اليشكري، فتنازعا الشعر، فقال له امرؤ القيس: إن كنت شاعرًا كما تزعم فملط أنصاف ما أقول، فقال له: قل: فقال امرؤ القيس:
أحارِ ترى بريقًا هبَّ وَهْنًا
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا
فقال امرؤ القيس:
أرِقْتُ ونام أبو شُرَيْحٍ
فقال التوأم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب فقال التوأم:
عشارٌ وُلَّهٌ لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن دنا لقفا أضاخ
فقال التوأم:
وهت أعجاز ريِّقه فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك بذات السر ظبيًا
فقال التوأم:
ولم يترك بجلتها حمارا
فبهت امرؤ القيس مما راى من بداهة اليشكري، وأقسم ألا ينازع الشعر أحدًا.
واجتع الطرماح بذي الرمة فقال له: هل نتساجل، فقال: قل، فقال ذو الرمة:
فما ذا زينة قد زينوه *** لغير زيادة ولغير عيد
فقال الطرماح:
هو الميت المكفن في ثياب *** يلف بها إلى القبر الجديد
وقال ذو الرمة:
وبنيان شديد الأيْدِ عالٍ *** بلا مدر أقل ولا عمود
فقال الطرماح:
فتلك سماؤنا خلقت ظلالًا *** بناها الله ذو العرش المجيد
وقال ذو الرمة:
وحسناء المناظر كل يوم *** لها وجه يضرب بالحديد
فقال الطرماح:
هو الوَرِقُ التي في الكير تجلى *** تخلص بالمطارق والوقود
وهذا الباب لا ينحصر، وإنما أشرنا إلى شيء مما وقع للعرب ليعلم أنهم يتنبهون لمثل ذلك، وما وقع بعدهم في كل زمان إلى اليوم أكثر وأكثر.