أيها الأخ الحبيب :
أصحاب القبور مرتهنون بأعمالهم مجزيون بأفعالهم , قد أفضوا إلى ما قدموا , أمنية
أحدهم أن يعود إلى الدنيا ليفسح له في الأجل فيستأنف العمل , فيملأ كل لحظة بطاعة وكل ساعة بقربة وكل دقيقة بزلفى , تقربه من الله وترفع قدره عند خالقه ومولاه , وتبيض وجهه يوم لقاء الله , يوم تيبض وجوه المؤمنين بطاعة الله وتسود وجوه المجرمين بمعصية الله , ولكن { حيل بينهم وبين ما يشتهون }
ضاعت الأيام في جمع الحطام , وجاء الموت ليخترم العمر ويلقي الدنيا بما فيها وعليها
خلف الظهر,
كمثل نملة صغيرة تجمع الحب في الصيف لتأكله في زمن الشتاء عندما يشتد البرد ويفتقد الغذاء , وفي يوم من الأيام أخذت النملة حبة في فمها لتكنزها في مخدعها , فجاء عصفور من السماء فأخذها والحبة معها , فلا ما جمعت أكلت ولا بكنزها تمتعت .
فما دمت ـــ أيها الحبيب ـــ في زمن العمل فدع التواني والكسل . وما زلت في إمكان البذر , فتنبه من هذا الرقاد فقد حصحص زمن الحصاد .
وما برحت الفرصة أمامك وميدان السباق بين يديك , ومضمار التنافس تحت قدميك ..
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ارتحلت الدنيا مدبرة , وارتحلت الآخرة مقبلة , ولمل واحد منهما بنون , فكونوا ما أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا , فإن
اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل " .
فالبدار ... البدار ...
والمسارعة ... المسارعة ...
قبل أن ينتهي زمن المهله ويحين وقت النقلة , فتنقل من القصور إلى القبور, ومن الدنيا الى الآخرة.. ومن فوق الأرض إلى تحتها .. ومن المشي عليها والسعي فيها إلى الحشر بين أطباقها . فأي عيش يطيب .. وليس للموت طبيب ؟!
وأي حياة ترجى .. وليس دون ارحيل منجى ؟!
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على
الحصير , فأثر في جلده فقلت : بأبي وأمي يارسول الله ! لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئا يقيك منه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أنا والدنيا ! إنما أنا والدنيا
كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ".
فاهتبل فرص العمل قبل أن يحيق بك التلف فتطوى الصحف وتعاين غطاءك الذي انكشف , فترجوا الرجوع ولا رجوع !!
{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها
كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } .
لمثل هذا فأعدوا
أيها الأخ الحبيب :
كان بعض السلف الصالح قد حفر لنفسه قبرا , فإذا فتر عن العمل نزل في قبره , فتمدد في لحده , ثم قال لنفسه : يا نفس قدري أني قد مت وصرت في لحدي : أي شيء كنت تتمنين ؟
قالت : أرد إلى الدنيا , فأعمل فيها صالحا .
فيقول لنفسه : قد بلغت أمنيتك , فقومي فاعملي صالحا . فيعود وقد زاد إيمانه فباشر قلبه وجنانه فانقاد للعمل جسمه وأركانه .
وإنما هي لحظة محاسبة للنفس ومعاتبة للحس فأخذ للعظة والدرس !!
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :" بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال : علام اجتمع عليه هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرنونه , قال : ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إللا القبر فجثا عليه , قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع , فبكى حتى بل الثرى من دموعه , ثم أقبل علينا , قال : أي إخواني ! لمثل اليوم فاعدوا ".
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك ياابن آدم في غرور
فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا
لهذا الموت راحلة وزادا
فماذا أعدت ـــ أيها الحبيب ـــ لذلك اليوم العصيب ؟ّ!
يوم تغمض عينك عن الدنيا لتفتحها بين يدي منكر ونكير ..؟!
يوم يتخلى عنك أقرب الناس منك , فيدبر عن قبرك الأهل والأصحاب , وتوضع لوحدك بين الجنادل والتراب ؟!
قال صلى الله عليه وسلم :" يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد , يتبعه أهله وماله وعمله , فيرجع أهله وماله , ويبقى عمله ".
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غدا يالهف نفسي على غد
إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا
فما دام أن العمل الصالح هو الرفيق الذي لا يخون فاكتنز منه واستكثر قبل نزول الموت وانقطاع الصوت , وفوت الفوت { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }
ولمثل تلك اللحظات المهلكات { فليعمل العاملون }
عن ابن عمر رضي الله عنهما :" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار , فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : يارسول الله ! أي المؤمنين
أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقا . قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا , وأحسنهم لما بعده استعدادا . أولئك الأكياس ".
قال إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى : مثلت نفسي في الجنة مع حورها , وألبس من سندسها وإستبرقها وآكل من ثمارها , وأعانق أبكارها , وأتمتع بنعيمها , فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا , فأزداد من العمل الذي نلت به هذا .
ثم مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها , وأحرق بجحيمها , وأجرع من حميمها , وأطعم من زقومها , فقلت لنفسي : أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا
فأعمل عملا اتخلص به من هذا العذاب . فقلت لها : يا نفس فأنت في المنية فاعملي .
ونحن ما زلنا في المنية , فهل من يقظة واعتبار ؟
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وانك لم ترصد لما كان أرصدا