الشعر القصصي

الشعر القصصي

الخصائص والأسباب التي تدفع الشاعر لكتابته

المقدمة : يعاني الشاعر انفعالا عاطفيا يسببه مؤثر ما وقصائده هي الميدان الذي يفرغ فيه هذه العواطف فيقوده ذوقه الفني إلى اختيار اللغة المناسبة والبحر العروضي الملائم وكذلك الشكل المفضل للتعبير عن مشاعره وقد يكون هذا الشكل شعرا وجدانيا وقد يكون أسئلة محيرة يبثها ثنايا القصيدة كما قد يكون نوعا من المسرحية او نوعا من القصص وهو موضوعنا .

العرض : والشعر القصصي أحد أنواع الشعر الموضوعي فهو قصيدة على شكل قصة أو هو قصة كتبها صاحبها شعرا بأن رسم حوادثها وشخصياتها وبيئتها بالشعر وقد أحسن نزار قباني حين سمى الشعر (الرسم بالكلمات

ـ وكذلك يجعل الشاعر وصفه وسرده وحوار أبطاله شعرا ومن المعلوم أن من يكتب شعرا موضوعيا قصصيا أو مسرحيا أو ملحميا لا تظهر ذاتيته وشخصيته خلال القصيدة وإنما يصطنع من خياله أبطالا ويحركهم من وراء الستار ويتركهم يعبرون عن عواطفهم بشكل طليق .

ـ والشعر القصصي قليل في أدبنا القديم مثله بقية أنماط الشعر الموضوعي وذلك لأن شعرنا العربي وجداني غنائي يعبر فيه الشاعر عن ذاته وعواطفه فكانت أغراضه وجدانية كالغزل والفخر والمدح والرثاء والهجاء ... ولم نجد من الشعر القصصي إلا قصائد معدودة منها قصيدة الخطيئة في قصة البدوي وضيفه ومنها أيضا قصائد الشاعر العباسي أبان بن عبد الحميد اللاحقي التي نظم فيها قصص (كليلة ، ودمنة) بعد أن ترجمها ابن المقفع .

على أن هناك شعرا قصصيا من نوع آخر إنه غير موضوعي بل قد امتزجت فيه القصصية بذات الشاعر وشخصيته وظهرت عواطفه صريحة خلال قصته الشعرية من ذلك خمريات أبي نواس فكثيرا ما وصف خروجه ليلا مع أصحابه وزيارتهم سرا لبعض البيوت النصارى التي تبيع الخمر وتستقبل زبائن الفسوق للشراب بمصاحبة الغناء والموسيقى فيصف تفاصيل الحفلة حتى طلوع الصباح والشعور بالندم على إضاعة أوقات الصلاة .

ـ ومن أمثلة ذلك أيضا قصيدة البحتري التي يصف فيها قتله لذئب كاسر عظيم القوة والشراسة .

ـ وفي العصر الحديث مال عدد من شعرائنا إلى كتابة الشعر القصصي الموضوعي وفي مقدمتهم أحمد شوقي الذي نظم قصائد متعددة لغرض تربوي تعليمي .

ـ وكان يكتب ذلك لأطفال المدارس خاصة فحين يشعر بأنهم ينبغي أن يتعلموا الحذر والتأني ينظم لهم قصة اليمامة الحمقاء وحين أراد أن ينبه الشعب إلى عدم فسح المجال أمام الامتيازات الأجنبية نظم قصيدة الدجاج الطائش الذي فتح باب العش لديك هندي كبير زعم أنه مجرد ضيف لكنه بعد أن دخل وسيطر صار يتحكم فيأمر وينهي .

ـ ونظم كل من الشاعرين خليل مطران ومعروف الرصافي هذا اللون من الشعر .

ـ وللشعر القصصي خصائص يتميز بها :

ـ فهو يتوفر على عناصر القصة فيصف مسرح الأحداث (البيئة الزمانية والمكانية) ويصور الحادثة والأشخاص والعقدة والحل وكل ذلك بشكل موجز سريع ويقدم قصته عن طريق السرد لتقديم الأحداث والوصف لبيان البيئة وميزات الشخصيات والحوار لنقل مخاطبات الأشخاص وينوع أساليب التعبير تبعا لذلك فالأساليب الخبرية للسرد والوصف ومعها التمني والرجاء والأساليب الإنشائية لإجراء الحوار ومنها النداء والتعجب والاستفهام والعرض والتحضيض .

ـ أما حبكة هذه القصة (القصيدة) فهي عادية دائما تسجل الحدث ثم الأزمة تليها العقدة والحل لكن هذا الشعر يبقى بعيدا عن العمق والتحليل وتقنيات القصة الأخرى وإنما هو يماثلها في امرين فقط هما الفكرة وأسلوب الحكاية .

ـ ولا شك أن للشاعر أسبابا فنية تدفعه لصياغة قصيدته على شكل قصة ونحن نحاول أن نلتمس بعضها :

ـ منها حفاظه على الوحدة العضوية لقصيدته حيث تبقى القصيدة كلاً متكاملا متواصلا لا يمكن التقديم والتأخير أو الحذف في أبياتها ولا ينحرف الشاعر (عند نظمها) إلى أي موضوع ثانوي غريب عن جو القصيدة .

ـ ومنها الخروج عن جفاف الفكرة وجعلها فكرة شعرية عاطفية ومثال ذلك أن أبا القاسم الشابي حين أراد تحذير شعوب المغرب العربي من فكرة الإدماج التي عرضتها فرنسا (وهي فكرة لا تبدو شاعرية) عرضها في أسلوب القصة بقصيدته (فلسفة الثعبان المقدس) وكانت موفقة من حيث آداؤها الفني وهدفها الوطني .

ـ يمثل الشعر القصصي الموضوعي غالبا رموزا قريبة التناول والفهم فقد رمز إليا أبو ماضي للإنسان البسيط الذي يهمله المجتمع بالحجر الصغير في السد العظيم وتمثل الرموز المتعددة التي تضمنتها هذه القصيدة عناصر جمالية قوية التأثير أكثر بكثير من تأثير الحقيقة الواقعية .

ـ ومما يدفع الشاعر إلى الرمز ـ أحيانا ـ حفاظه على نفسه من المسؤولية المباشرة ولعل قصيدة الشابي (فلسفة الثعبان) من هذا القبيل إضافة إلى روعة الرموز فيها .

ـ ومن أهم ما يدفع الشاعر إلى ارتياد هذا الفن أيضا هو عنصر التشويق الذي تتوفر عليه القصة حيث تتلاحق أنفاس القارئ لمعرفة خاتمة القصيدة التي تحولت قصة ولا شك أن أحمد شوقي وضع ذلك في حسبانه حين نظم القصائد التعليمية التربوية .

ـ أما إليا أبو ماضي فقد سار على طريقة جي دي موباسان كاتب القصة القصيرة الشهير فصار أبو ماضي يجعل حل القصة وخاتمتها يمكن في آخر بيت كما هو الحال في (الحجر الصغير) بل في آخر كلمة من بعض قصائده .
ـ الخاتمة : وخير ما نختتم به مقالتنا هذه أن نسجل أن الشعر القصصي سيبقى أحد أجمل أشكال القصيدة فهو يحمل بذور بقائه وقوته في عناصر التشويق ـ والجمال الرمزي ـ والوحدة العضوية ـ وتسهيل مهمة الشاعر لتطويع الفكرة العقلانية المنطقية بتحويلها إلى روح شاعرية تزخر بالعواطف .
وسأعرض في الموضوع القادم نماذج منه

سلمت يدآك..
على جميل طرحك وحسن ذآئقتك
يعطيك ربي ألف عافيه
بإنتظار جديدك بكل شوق.
..}~ مودتي