يعتبر حالياً خبز التنور من التراث الذي يفخر به ريفنا الجميل، وخبز
التنور ذو النكهة المتميزة أصبح الآن في الحياة المدنية فاكهة جميلة من حصل
عليها فهو ذو حظ عظيم، في هذه الدراسة الموثقة نلقي الضوء على تاريخ هذه
الصناعة التراثية وطريقة الصنع وتأثيرها على الحالة الاجتماعية في الريف مع
أهم الأقوال والأمثال التي قيلت في ذلك.
لمحة تاريخية:يميل
الإنسان منذ القدم إلى الاستقرار ولعل من أهم الأمور التي تمكنه من ذلك
وجود الماء للشرب ولقضاء حاجاته ووجود الغذاء، وقد بينت الدراسات أن
الأماكن التي تحوي على الماء كانت أول الأماكن التي قامت بها الحضارات ولعل
من أهمها حضارة وادي النيل وحضارة بلاد الرافدين وكلا الحضارتين استغلت
المياه للزراعة وتطويرها إلا أن حضارة بلاد الرافدين كانت متطورة أكثر حيث
كان يسكن السومريون ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد وحسب الدراسات الحالية
التي بينت أنه في وادي الرافدين (شمال سورية) دجنت الحنطة للمرة الأولى، حيث كان السجل الغذائي في سومر يتكون بشكل أساسي من
منتجات الحبوب والتمور والعسل والسمسم (الطحينية).
وكما يورد كتاب الحياة اليومية في بلاد ما بين النهرين قديماً
تفاصيل هامة عن نمط تغذية السكان التي كانت تقوم على الشعير وحبوب أخرى
مثل الدخن والقمح والشيلم والتي تطحن بالطواحين الحجرية لإنتاج أنواع
مختلفة من الدقيق الذي يستخدم في صناعة الخبز. وفي الألف الثالث ق.م استخدم
الرز في التغذية. وكان السومريون يشربون حليب البقر والماعز والأغنام
وكانت هناك صناعة مشتقات الحليب مثل الجبن وهو ذي أنواع كثيرة منها الجبن
الأبيض والأجبان الحلوة والحادة المذاق. وعرفت صناعة البيرة وبأنواع مختلفة
والنبيذ الذي كان يصنع من العنب.
وبشكل عام ومنذ أن تكونت الخليقة
على سطح الأرض يسعى الإنسان ويكافح من أجل الحصول على لقمة العيش وقد دلّ
كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير أن عملية الطحن والخبز كانت منذ آدم
عليه السلام:
((آدم - وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير
يوسف # وأنزل عليه جبريل بصرة فيها حنطة فقال آدم ما هذا قال هذا الذي
أخرجك من الجنة فقال ما أصنع به فقال انثره في الأرض ففعل الله من ساعته ثم
حصده وجمعه وفركه وذراه وطحنه وعجنه وخبزه كل ذلك بتعليم جبريل عليه
السلام)) (ج1 - ص39)
. خبز التنور:جميع ثورات الجياع نُسبت أسبابها للخبز وليس لغيره (كالرز أو العدس ...الخ) كما انه لا يعني المعنى الحرفي لكلمة الخبز وحدها.
الخبز
الغذاء الرئيسي الذي يجب أن يكون على مائدة الطعام، تنوعت مصادر الحصول
عليه ولكن يبقى الإنسان الأول الذي فكر وابتكر في كيفية الحصول على رغيف
خبز يتناوله بشهية ولذة، الإنسان القديم الريفي الذي لا يملك من أدواته إلا
التراب والحجر وبقايا متناثرة من أمتعة وألبسة بالية لا تصلح لشيء، حاول
هذا الإنسان الاستفادة من هذه الأدوات فسخرها لخدمته وأوجد منها ما يستفيد
منه فكان من بين ما كان التنور.
ما هو التنور:التنور (كلمة بابلية)
وفي اللغة العربية الفُرْنُ الذي يخبز عليه الفُرْنِيُّ وهو خبز غليظ.
وقد وردت كلمة التنور في القرآن الكريم.
قال الله عزَّ و جل : {
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا
مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } ( سورة هود: 40).
المراد من "
التنور " في قوله تعالى هو المكان المعروف الذي يُخبز فيه الخُبز ، و كان فوران
الماء من التنور ـ و هو موضع غير معهود خروج الماء منه ـ علامة للنبي نوح (
عليه السلام ) و بمثابة الإنذار و بداية العد التنازلي ، و كان على نوح (
عليه السلام ) أن يتهيأ هو و أصحابه لركوب السفينة عند حصول هذه العلامة .
مما يصنع التنور:يصنع
التنور من التراب الأحمر (البعض يستخدم التراب المستخرج من قيعان الوادي
ويكون أبيضاً ولكن ذراته تتمتع بقساوة كبيرة توازي قساوة الرمل) ويخلط هذا
التراب بالتبن وهو بقايا النباتات النجيلية (القمح – الشعير وغيرها) بعد
حصادها أو بقايا أكياس الخيش وهذا يعطي الخليط قوة ومتانة إضافة إلى قطع من
القرميد.
بعد ذلك تختار السيدة الريفية
مكاناً مناسباً في فناء الدار الذي يكون واسعاً على أية حال وتبدأ بعجن هذه
الخلطة وتساعدها في ذلك عدداً من جيرانها أو أقرباؤها وتبدأ في بناء
التنور المنتظر.
الطحين:يستخرج الطحين من القمح بشكل رئيسي، وقديماً استعملت حبوب أخرى لاستخراج الطحين وخبزه مثل الذرة والشعير إلا أنها اليوم لا تستعمل.
القمح
من أقدم ما عرفه الإنسان، ويعود تاريخه ومعرفته إلى العصر الحجري، وقد جدت
نقوشه ورسومه في الآثار الكثيرة، وهذا يدل على مكانته التي كانت بمقام
التوقير و التقديس. وتذكر الأديان أن القمح من نباتات الجنة نزل إلى الأرض،
وقد يكون موطنه الأصلي ما بين الشام (فلسطين، الأردن، سورية، لبنان)،
واليونان.
يزرع القمح في كافة الأراضي السورية وله نوعان القمح القاسي والقمح الطري ومنه يستخرج الطحين بعد عملية الطحن.
مستلزمات الخبز على التنور:1. المنخل: وهو عبارة عن إطار دائري خشبي أو معدني يوصل بقاعدته شبك معدني فتحاته بقطر صغير جداً تسمح للذرات الناعمة بالمرور من خلاله فقط ويستخدم لتنقية الطحين من العوالق والنخالة وبقايا عملية الطحن.
|
|
2. الكارا: وهي عبارة عن قرص دائري مصنوع من قطع قماشية قديمة يوضع عليه قطعة العجين الرقيقة عند إدخالها إلى التنور.
|
|
3. الطست: وعاء واسع يستخدم لعملية العجين.
|
|
4. الطبيقة: وعاء واسع مصنوع من القش ذو تلوينات فنية جميلة يستخدم لوضع الخبز المستخرج من التنور أثناء عملية الخبز.
|
|
5. الشوبك: اسطوانة خشبية تستعمل لتفتيح قطعة العجين وجعلها رقيقة.
|
|
6. الخميرة: لتعطي العجين طعماً مستساغاً حيث تمنعه من الفساد (الحمضة) وتشترى من السوق جاهزة أو تترك قطعة من عجين سابق.
7. الطحين والماء والملح والزيت والحطب والتنور.
عملية العجين:بعد
نخل الطحين وتنقيته يسكب في الطست وذلك وبمقدار ما تريد ربة المنزل أي بما
يكفي العائلة ليومين أو ثلاثة ثم قوم بسكب الماء فوقه ويتم مزجه بشكل جيد
ثم تضيف له الملح والخميرة وبعد عجنه بشكل جيد أي مزج مع تقليب من جميع
الجهات بواسطة الأيدي حتى تصبح كتلة عجينية متماسكة وبعدها تغطى بمنديل
نظيف لمدة ساعتين تقريباً ريثما يتم اختمار العجينة.
ويمكن
لربة البيت الماهرة أن تكتشف اختمار العجين من الطرق عليه وسماع الصوت أو
شم رائحته فتتأكد أن العجين اختمر وأصبح جاهزاً لعملية الخبز.
تبدأ
بعد ذلك عملية تقطيع العجين إلى كرات صغيرة (تقريصة) مناسبة لجعلها رغيف
خبز بحجم معين وتقوم بهذه العملية عدة سيدات تتعاون مع بعضها البعض وبعد
الانتهاء تنقل هذه التقريصات إلى التنور حيث يكون قد تهيأ بعد إضرام النار
به إلى عملية الخبز.
عملية الخبز:تتطلب
عملية الخبز على التنور عاملتين أو ثلاثة على الأقل وبعد تنظيف التنور من
بقايا الحطب المستخدم لإحماء التنور يتم وضع صينية قطع العجين (التقريصات)
على مصطبة التنور ثم تبدأ عملية الخبز بدءاً من العاملة الأولى التي تقوم
برق التقريصة بواسطة اليدين مع استخدام الزيت للمساعدة في عملية تفتيح
العجينة ثم للعاملة الثانية التي تستخدم الشوبك فتصبح التقريصة رقيقة جداً
وذات مساحة دائرية كبيرة ثم تنتقل للعاملة الثالثة التي تقوم بتقليبها على
اليدين في الهواء وهنا تبرز القدرة والمهارة للسيدة الريفية التي تتمتع
بالخبرة الواضحة بعد أن تدربت وقامت مرات عديدة بالخبز على التنور، توضع
بعدها العجينة المرقوقة بشكل جيد وكاف على الكارا ثم تلصق في النهاية على
جدار التنور المحمية بشكل جيد، يتم الانتظار حتى ينضج الرغيف ثم يتم نزعه
باليد وبهذه الطريقة نكون قد ألممنا بطريقة الخبز على التنور بشكل جيد.
استعمالات أخرى للتنور : يستعمل التنور لأغراض أخرى غير إعداد ال
خبز مثل
: 1) خبز الفليفلة (المحمرة).
2) خبز الحمص.
3) شوي اللحم , الدجاج , السمك .
4) ( كعك العيد) في المناسبات كالأعياد.
5) شوي بعض أنواع الخضار كالباذنجان.
6) تسخين الماء لاستعمالات المنزل.
7) وأغراض أخرى تستعمل في حينها.
الجانب الاجتماعي لعملية الخبز على التنور:عملية
الخبز على التنور في الأرياف السورية مناسبة غالية وعزيزة على نساء القرية
حيث يجتمعن ويتحادثن مع بعضهن البعض عن مشاكل الأسرة ومناسبات القرية مثل
الخطوبة والزواج والولادة وغيرها وتدور الأحاديث وبعض الأغاني والأمثال حيث
يقال
لا تخطب البنت إلا من راس التنور أي قديماً حتى
تكون البنت مرغوبة للزواج يجب أن تكون ملمة بعملية الخبز على التنور وبمعنى
آخر تكون ربة بيت ممتازة وقد قيلت أمثال كثيرة في الخبز على التنور
وأحياناً يتم الحلفان بالخبز مثل
وحق الخبز والملح و
وحق مين خلقه والمقصود الخبز وأيضاً
وحق هالنعمة. بعض الأمثال التي قيلت في الطحين والخبز والتنور:· خبز المبلول بيشفي المعلول.
· عود بطنك على رغيفين ولا تعود جسمك على توبين.
· اللي تعود على خبزك كل ما شافك بيتلمض.
· اللي معود على خبزاتك كلما شافك بهز زنارو.
· خبز وماء أكل العلماء.
· عجينك من طحينك وخبزك بعرق جبينك.
· هـ الطين ما هو من هـ العجين.
· عجين الفراخ (الصبايا) أبيض ورفاخ (الرغيف).
· وجهو ما بيضحك ولا للرغيف السخن.
· ما يتنخطب البنت إلا من راس التنور.
وأخيراً
فإنه رغم التطور التكنولوجي والحضاري الحاصل فإن ريفنا السوري لا زال
متمسكاً بأصالته وعاداته النبيلة، هذه العادات التي ينطوي تحتها آلاف القصص
والحكايات التي أصبحت في زماننا هذا حكماً وأمثال يقتدى بها في الظروف
الصعبة.