للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وربما حتى أيضاً في التاريخ القديم منذ العصر العباسي، تطغى العوامل الداخلية على العوامل الخارجية في تشكيل الحدث العربي.
قد لايكون هذا التطور كاملاً او تاماً، في عصر تحوّل العالم فيه إلى قرية واحدة، لكنه حقيقي. صحيح أن قوة جاذبية الدول الكبرى لاتزال موجودة بكثافة، لكن إلى جانبها الآن نبض الشارع العربي الذي يخفق بشدة هذه الأيام.
العامل الداخلي الذاتي حظي فجأة بقصب السبق واحتل سلم الاولويات. وهو إن لم يكن قادراً على أن يصنع التاريخ وحده، إلا أنه سيؤثر حتماً فيه وفي توجهاته.
الأمريكيون أول من أدرك هذا التطور الجديد والكبير في السياسات العربية، ولذلك تحركوا بسرعة لمحاولة فهمه أولاً، ولتحديد الموقف منه ثانياً. هذه بعض العيّنات:
- ستيفن هايدمان( نائب رئيس مؤسسة الولايات المتحدة للسلام): المنطقة العربية تهتز بعنف، ويتعيّن على الولايات المتحدة الآن ان تعترف بعمق مشاعر الغضب لدى المواطنين العرب، وأن تقيم علاقة واضحة بين مصالحها وبين مسألة الشرعية في الشرق الأوسط.
- أرون ديفيد ميلر( باحث في مركز وودرو ويلسون): إدارة أوباما ستكون ذكية إذا ما تجنّبت الانغماس في الأجندة الإديولوجية لسلفها إدارة جورج بوش، خاصة وأنه قد برزت على الساحة أجندة حرية محلية خاصة بالشعوب العربية. الولايات المتحدة لم تعد تُسيطر على تاريخ الشرق الأوسط.
- دانيال بليكا (نائب رئيس في مؤسسة أمريكا أنتربرايز): ثمة خيارات ثلاثة الآن أمام الولايات المتحدة: أن تقود، أو أن تقوم برد فعل، أو أن توحي بأنها لامبالية. في ضوء التطورات الراهنة في الشرق الأوسط، الأفضل الانحياز إلى الخيار الثالث .
- حسين آغا وروبرت مالي(باحثان أميركيان بارزان حول الشرق الأوسط): عقود من السياسة الأميركية في المنطقة تلاحق واشنطن كالشبح. ولذا، عليها الآن أن تنتظر لتر ما ستتكشف عنه التطورات في المنطقة.
خلاصات خطيرة؟
حتماً. إذ هي دليل إضافي على أن حيزاً لابأس به من مستقبل المنطقة بات في أيدي أبناءها. وهذا، كما ألمعنا في البداية، يحدث للمرة الأولى، بعد أن كانت المصائر والمقادير رهن بغرف العمليات الغربية ورهينة لها.
الآن سيتوجب على شعوب المنطقة أن تنظر ملياً في المرآة لترى نفسها فقط وليس “الأخر” الغربي المتفوّق الذي لطالما أربك هويتها. وهذا سيُرتب على هذه الشعوب، نخباً ومواطنين، تحمّل مسؤولية تاريخية كبرى في اتجاهين:
الأول، منع هذه المسؤولية التاريخية الكبرى والجديدة من الانزلاق إلى الفوضى أو الصراعات الداخلية، التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تآكلها أو تضعضع مقوماتها. وهذا أمر ممكن لأن المطلوب في هذه المرحلة ليس “الفوضى الخلاقة” المُدمّرة، بل “البناء الخلاّق” لمجتمع جديد ولديموقراطية متقدمة.
والثاني، العمل على إعادة ترتيب علاقات المجتمع، بكل مكوناته المدنية والعسكرية، على أسس عقلانية وغير متهورة. فالسرعة مطلوبة، لكن التسرّع أحياناً يؤدي إلى عكس النتائج المتوخاة.
لقد اكتشف ابن خلدون مبكراً أنه ” إذا ما تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم وكأنه ولد من جديد”
الأحوال تبدّلت بالفعل بعد أن باتت العوامل المحلية هي الأكثر حسماً. بقي أن يُواكب الخلق ذلك، بحكمة وتؤدة.
لكن، هل هذه الحكمة متوافرة، وبالتالي هل لايزال في المستطاع الإفادة من هذه “الحرية النسبية” التي يوفرها النظام الدولي للشعوب العربية؟
البعض يرد سريعاً بالنفي. لابل يقفزون إلى القول فوراً أن هذا بات مستحيلاً بعد أن انقلب الربيع العربي إلى شتاء.
ويورد هؤلاء لتعزيز وجهة نظرهم، الحرب الأهلية الدموية في سورية، وانهيار الدولة المتواصل في ليبيا واليمن، وتفاقم الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية في تونس ومصر، ثم يضيفون بأن كل ذلك يشي بأن العوامل الذاتية العربية غير قادرة بنفسها على تجنُّب الفوضى غير الخلاقة.
حسناً. هذا الرأي صحيح جزئياً. لكن جزئياً فقط ومؤقتاً أيضا.
فالانفجار والدمار اللذان تشهدهما المجتمعات العربية هذه الأيام هائل بالفعل. لكن، مايغفله الكثيرون هو أن الحدث أمر طبيعي في الواقع، لا بل قد يثبت أنه في خاتمة المطاف صحي ومثمر.
كيف؟