بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل أفضل صلاة وأزكاها وأتمها وأرقاها على إمامنا وشفيعنا وقائدنا ونبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مباركا فيه كما يرضيك ويرضيه وترضى به عنا يا رب العالمين.
مرض السكري والصوم
عرض علي سعادة الأمين العام للمجمع الدولي للفقه الإسلامي أن أدرس هذا الموضوع. وقد حدد كتاب الدعوة المحاور فيما يلي:
المحور الأول: بيان الحالات المختلفة للمرض، وأثر الصوم في زيادة المضاعفات أو الخطر على المريض. مع بيان حكم الصوم في تلك الحالات في إطار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن,
ومدى اختلاف هذا الحكم حسب نوع الصوم، والحالة العمرية للمريض ( كبار السن ) وحال الحمل بالنسبة للمرأة.
المحور الثاني: الشروط الواجب توفرها في الطبيب المعالج في هذه الحالة, ومتى يكون قراره معتبرا من الناحية الطبية والشرعية، مع بيان الحكم الشرعي في حالة عدم التزام الطبيب بحكم الشرع، وحالة عدم التزام المريض بقرار الطبيب بالترخيص الشرعي. أو عكسه.
المحور الثالث: حكم إعادة الصوم بالنسبة للمريض من خلال تغير حالة المريض من الخطورة وعدمها.
___
أقول مستعينا بالله سائلا من كريم فضله أن يلهمني الصواب ويحمي مسيرتي من الخطأ والزلل إنه سميع مجيب.
هل السكري مرض ؟
اتفق الأطباء على أن السكري مرض ذو أطوار تختلف مستوياته اختلافا بينا وكذلك مضاعفاته التي تؤثر على كثير من الأجهزة تأثيرا ربما يصل إلى تخريبها، وقد تُعرِض المصاب إلى أخطار متنوعة قد تهدد بقاءه.
ولذا فإنا نتعامل مع السكري باعتباره مرضا لصاحبه أحكام المريض.
ما حكم صوم المريض ؟
الآيات التي فرضت على المؤمنين صيام شهر رمضان قارنة ذلك بتفصيل بعض أحكامه هي قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ _ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ _ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {[1] . افتتحت الآية بفرض الصيام على جميع المؤمنين. وثنت بأن من كان مريضا أو مسافرا أفطر وقضى الأيام التي أفطر فيها.
والمرض ليس على مرتبة سواء: فحده الأدنى أن لا يتأثر الصائم به إذا قام بأداء الواجب معه. وحده الأعلى أن يعرض الصائم نفسه إلى الخطر إن هو صام. وبينهما مراتب. ولفظ المرض يقال بالتشكيك على جميعها.
وقد اختلف السلف في المرض المبيح للفطر، فنقل الطبري بسنده عن طريف ابن تمام العطاردي أنه دخل على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فلم يسأله، فلما فرغ قال:إنه وجعت إصبعي هذه.
ونقل عن آخرين: أنه المرض الذي ينهك الصائم ويضعف قواه.وقد جعل الحسن البصري أمارة ذلك، أنه لا يستطيع أن يصلي قائما.فإذا بلغ المرض بالصائم هذا المستوى من التأثير فإنه يباح له الفطر. ومثله عن إبراهيم النخعي. وجعل بعضهم أمارة المرض المبيح للفطر أن يكون الأغلب من أمر صاحبه أن تزداد علته زيادة غير محتملة، وهو ما رواه الربيع عن الشافعي.
يعلق الطبري على ذلك بقوله: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن المرض الذي أذن الله تعالى ذِكرُهُ بالإفطار معه في شهر رمضان، من كان الصوم جاهدَه جهدا غير محتمل. فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا، ومنع يسرا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
وأما من كان الصوم غير جاهدِه، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعليه أداء فرضه[2]. واستمر الخلاف بين المفسرين إلى عصرنا هذا.
ذهب القرطبي في تفسيره إلى ترجيح الإذن في الفطر بأقل ما ينطلق عليه اسم المرض. يقول: قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى.قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله ؟ فقلت: نعم.فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قال:حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج، قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر ؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى {فمن كان منكم مريضا} قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق[3]. واعتمد قول ابن سيرين سيد قطب إذ يقول: وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد. فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم. وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر. فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم، إنما هي المرض والسفر إطلاقا لإرادة اليسر بالناس لا العسر.ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر.... وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها، ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها، فوراءها قطعا حكمة، وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها..... وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها. بل لابد أن يكون الأمر كذلك. ومن ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم[4]. وكما ذكر الإمام الطبري هناك اتجاهان: الاتجاه السيريني الذي يرجح الأخذ بالرخصة إذا وجد ما يطلق عليه مرض أثر في الصائم أو لم يؤثر.
وملحظ هؤلاء أن الله أمر بالصوم فعلى المؤمن أن يذعن لأمر ربه ويقوم بالواجب، ورخص للمريض أن يفطر رحمة منه وتوسعة، فمن سوء الأدب مع الله أن يعرض المؤمن عما تفضل به عليه ربه من التيسير, ليظهر بمظهر القوي المستغني عن الألطاف الإلهية.
كما يبدو لي من ناحية ثانية: أن الله جمع بين السفر والمرض، والمسافر أذن له في الفطر بإجماع العلماء سواء أصحب سفره مشقة أم لا. وشأن المتناسقين في الذكر أن يستويا في الحكم. وقد قال الفقهاء: إن السفر من باب التعليل بالمظنة، مؤكدين أن حصول انتفاء المشقة لا يرفع حكم الترخص.فملاحظة هذا الجانب تُرجح عندهم أيضا الفطر بأدنى مرض.
الاتجاه الثاني: هو أنه ينظر في مناسبة المشقة للتخفيف. وأن المرض يبيح الفطر إذا كان الصوم معه يجعل الصائم في حرج زائد عن أصل المشقة الحاصلة مع العبادة. وهذا هو اتجاه الطبري كما قدمناه عنه وهو ما يرجحه معظم المفسرين. يقول ابن كثير: معناه ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه..... فله أن يفطر فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره من الأيام، ولهذا قال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم والصحيح تيسيرا عليكم ورحمة([5]). ويقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر, فأما المرض الغالي الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر، بل يوجب الفطر. وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره، فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يسبب أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة، أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير. وأعدل العبارات ما نقل عن مالك لأن الله أطلق المرض ولم يقيده، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم[6]. وقد عقد شهاب الدين القرافي فرقا بين المشقة التي تربو عن المعتاد في التكليف فيتبعها التيسير، والمشقة التي هي من طبيعة العبادة المكلف بها وهي لازمة للتكليف فلا يشرع الإذن في التخفيف من أجلها. يقول: المشاق قسمان: أحدهما لا تنفك عنه العبادة كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد، فهذا قسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها.
وثانيها المشاق التي تنفك عن العبادة وهي ثلاثة أنواع:ما كان منها في الرتبة العليا كالخوف على النفس أو العضو، فهذا يوجب التخفيف. لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، ولو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة، ونوع في المرتبة الدنيا كأدنى وجع في إصبع فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة هذه المشقة. النوع الثالث مشقة بين هذين النوعين فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط بينهما يختلف فيه لتجاذب الطرفين.
ثم يتابع قائلا: ما وقع مسقطا للعبادات من المشاق لم يكتف الشرع في إسقاطها بمسمى تلك المشاق بل لكل عبادة مرتبة معينة من مشاقها المؤثرة في إسقاطها.... العبادات مشتملة على مصالح العباد ومواهب ذي الجلال وسعادة الأبد فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة مع يسارة احتمالها، ولذلك كان ترك الترخص في كثير من العبادات أولى، ولأن تعاطي العبادة مع المشقة أبلغ في إظهار الطواعية، وأبلغ في التقرب، ولذلك قال عليه السلام أفضل العبادات أحمزها، أي أشقها. وقال: أجرك على قدر نصبك[7]، .ثم واصل القرافي كلامه مفرقا بين العبادات والمعاملات([8]). وبهذا التحقيق أخذ الأئمة الأربعة. فمذاهبهم أن المريض لا يفطر إلا من المرض الذي يضاعف علته أو يضعفه عن الصوم.
1- ففي المذهب الحنفي يقول في الدر: لمريض خاف الزيادة لمرضه وصحيح خاف المرض بغلبة الظن، أو بتجربة، أو بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور[9]. 2- وفي المذهب المالكي قال ابن يونس ناقلا عن المجموعة عن أشهب: في مريض لو تكلف الصوم لقدر عليه، أو الصلاة قائما لقدر، إلا أنه بمشقة وتعب، فليفطر ويصلي جالسا ودين الله يسر.قال مالك: رأيت ربيعة أفطر في مرض لو كان غيره لقلت: يقوى على الصوم.إنما ذلك بقدر طاقة الناس. قال أبو محمد:من قول أصحابنا: إن المريض إذا خاف إن صام يوما أحدث عليه زيادة في علته أو ضررا في بصره، أو غيره من أعضائه, فله أن يفطر.والذي حققه ابن العربي أن مالكا لا يشترط خوف زيادة المرض وإنما يربط ذلك بالمشقة الحاصلة إذ يقول:تفطن مالك -رحمه الله ـ في المرض لنكتة. وهي أن المريض يفطر بمجرد المشقة وإن لم يخف زيادة المرض. وقال غيره من العلماء لا يفطر إلا إذا خاف زيادة المرض[10]. و نقل البرزلي عن ابن أبي زيد إذا كان الصوم يضر به ويزيده ضعفا أفطر... ويفطر الزمن إذا أضر به الصوم، وكذا كل صوم مضر يبيح الفطر[11]. وذكر أبو عمر بن عبد البر: ولا يفطر المريض حتى تصيبه مشقة غير محتملة، وليس لذلك حد, والله أعلم، ويعذر بالعذر، ولو تحامل المريض فصام في الحال التي له أن يفطر فيها أجزأه[12] . 3- وفي المذهب الشافعي يقول النووي: المريض العاجز عن الصوم لمرض يرجى زواله لا يلزمه الصوم في الحال ويلزمه القضاء، هذا إذا لحقه مشقة ظاهرة بالصوم. ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم، بل قال أصحابنا: شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها، ونظروه بالتيمم. وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر[13]، بلا خلاف عندنا[14]. 4- وفي المذهب الحنبلي: وسن فطر وكره صوم لمريض يشق عليه بزيادة مرضه أو طوله، ولو بقول مسلم ثقة، وكذا إن خاف مرضا بعطش أو غيره، أو كان صحيحا فمرض في يومه فيسن فطره، ويكره صومه[15] . يقول ابن قدامة: أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة. والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه....فإن تحمل المريض وصام، فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيف الله تعالى، وقبول رخصته، ويصح صومه ويجزئه، لأنه عزيمة تركها رخصة، فإذا تحمله أجزأه.فهو كالذي يباح له الصلاة من جلوس فتحمل القيام، ومن يباح له ترك الجمعة فصلاها[16] . 5- وأما الظاهرية فإن ابن حزم ذكر المرض عرضا في تعداد المطالبين بالقضاء[17]. ثم تعرض إليه ثانية في خلال بيانه لحكم من جهده الجوع أو العطش فقال فرض عليه أن يفطر، وأنه إذا خرج بذلك إلى حد المرض فصومه صحيح، ولا قضاء عليه، لأنه مكره مضطر[18] . وثالثة لما بين حكم صوم الحامل والمرضع والشيخ الكبير أنهم إن أفطروا لمرض بهم عارض فعليهم القضاء[19] . و لعل ابن حزم شعر بالتناقض في موقفه لما أوجب الفطر على المسافر دون المريض مع أنهما قد اقترنا في الآية، فلذلك لم يتبسط في أمر المريض.
ولخص ابن جزي أحكام المريض في الفطر تبعا لشدة مرضه وتأثير الصوم عليه فقال: للمريض أحوال:
الأولى: أن لا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب. "ومؤداه أن الصوم حرام"
الثانية : أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر له جائز ،وقال ابن العربي : هو مستحب .
الثالثة: أن يقدر على الصوم بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: أن لا يشق عليه الصوم ولا يخاف زيادة المرض بالصوم، فالفطر عليه حرام عند الجمهور خلافا لابن سيرين[20] . ويقول الأبي:المذهب أنه يجوز الفطر بالمرض إذا خيف تماديه أو زيادته أو حدوث مرض آخر. قال الباجي: لا أعلم من خص الفطر بخوف الهلاك. وقال أبو عمر بن عبد البر: وقيل لا يفطر من خاف زيادته لأنها غير متيقنة. وقال اللخمي صوم المريض إن لم يشق عليه وجب، وإن شق خير، وإن خيف طوله أو حدوث مرض آخر منع، فإن صامه أجزأه.علق عليه الأبي بأن البغداديين من أصحاب مالك أنه يجوز الفطر والصوم إن خيف طول المرض أو حدوث مرض آخر.والوجوب إذا خيف التلف أو الأذى الشديد[21]. ولكن ما الحكم إذا كان المرض ملازما والعجز عن الصوم مصاحبا للمكلف كالهرم، ومن كان داؤه من الأمراض التي لم يصل العلماء لطريقة علاجها ؟
قضاء المفطر بعذر المرض في رمضان:
أجمع الفقهاء على أن الأصل أنه يجب على المفطر في شهر رمضان بعذر المرض أن يقضي ما فاته من الأيام التي أفطر فيها عندما تعود له استقامة بدنه، ويصبح قادرا على الصوم لقوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
ويتعلق بالقضاء أحكام كثيرة اختلف فيها الفقهاء. هل إن القضاء على الفور أو على التراخي؟ وهل يجب على الترتيب والتوالي؟ وما الحكم إذا أخر القضاء حتى لحقه شهر رمضان من العام القادم ؟ ومن كان عذره غير منفك كالهرم فهل يجب عليه بدلٌ عن الصوم ؟
وأقول باختصار: إن الراجح من أنظار الفقهاء في وجوب القضاء أنه ليس على الفور بمجرد ما يزول العذر المستند إليه في الفطر بعد شهر رمضان، بل للمعذور بعد زوال عذره أن يعجل القضاء وهو أفضل وبين أن يؤخره إلى أن لا يبقى من تلك السنة إلا مقدار ما يقضي فيه ما فاته.
وكذلك لا يجب على القاضي أن يوالي الأيام التي أفطر فيها ,بل هو مخير بين أن يفرق بينها، وبين أن يسرد الصوم بمقدار ما فاته.
وإذا اختار تأخير القضاء حتى دخل شهر رمضان من العام التالي وهو قادر على قضاء ما فاته ولم يقضه، فالواجب عليه إطعام مد عن كل يوم فاته قضاؤه. وهذا ما تفق عليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ولم يوجب أبو حنيفة عليه إطعاما.
أما إذا لازمه المرض ولم يرج له شفاء منه، بمعنى أن مشقة الصوم لا تنفك عنه في المستقبل وصاحبه العجز أو الإجهاد، فقد اختلف الفقهاء في إلزامه فدية عن الصوم ؟
رأى أبو حنيفة وأحمد أن عليه فدية إطعام مسكين عن كل يوم أفطر فيه. وذهب مالك إلى أن الفدية غير واجبة واختلف النقل عنه في استحبابها, وكذلك اختلف قول الشافعي والأصح وجوبها[22] . الخلق المحكم :
إن القسم الأول أعلاه قد تتبعت فيه أحكام الصيام بالنسبة للمرضى بصفة عامة مع ملاحظة الاقتراب من الموضوع الأصلي.
وفي هذا القسم الثاني سوف أتعرض للتطبيقات الفقهية الكاشفة عن أحكام صيام المصابين بمرض السكري.
وأبني كلامي هذا على مقدمة تبين خاصية هذا المرض وأنواعه واختلاف درجاته حسبما استفدته من كلام علماء الطب والتغذية عن هذا المرض الآخذ في الانتشار بين البشر. و ليس إدراك انتشاره ناتجا عن التوسع في العناية الطبية بالإنسان والكشف عن الاختلالات التي يصاب بها، بل يقرر الأخصائيون أن لتغير أنماط الحياة والتغذية الدور الكبير في ذلك.
والتعرف على هذا المرض يثير أمرا هاما نذكر به لما يترتب عليه من تقوية للإيمان في قلوب وعقول المستبصرين. كما قال تعالى: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ { [23]. لقد تأكد على أنه حقيقة علمية استندت إلى التجارب المتكررة، أن الله قد أحسن خَْلق كل جزء من أجزاء الإنسان، وأنه أودع فيه من الأسرار ما ينادي بأنه مستند إلى العليم الحكيم الذي لا تخفى عليه خافية، وأن كل جزء وكل جهاز ليس معزولا عن بقية الأجزاء والأجهزة، ولكنه مرتبط بها في نظام شامل كأدق ما يكون التنظيم، وأبلغ ما يكون الإحكام. قال سيدنا موسى لما سئل عن ربه: }رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى { [24] . طاقات ووحدات حرارية تأتي من الطعام الذي يتناوله الإنسان ثم تتحول إلى كل جزء من التركيب البشري ليستهلكها في القيام بوظائفه، ويتجدد العطاء باستمرار، وبميزان بالغ الدقة، لا يقوم الجزء أو الجهاز بوظيفته على أتم وجه إذا نقصت الوحدات التي هو في حاجة إليها، وكذلك إذا زادت فتدفقت كميات تفوق ما يطلبه حسب نظامه الذي أعطاه خالقه إياه.
وهو ما يشير إليه قوله تعالى: } وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ {[25] . وقوله تعالى بعد أن ذكر خلق الإنسان والكون وما بث فيه من كواكب محسوبة في كياناتها وأبعادها بحساب دقيق أنه وضع الميزان. وضع الميزان في عالم الروح والعقل، وفي عالم المادة، في المجرات التي لا يستطيع الإنسان أن يدركها بحواسه لعظمتها، وفي الذرة الصغيرة التي لا تكتشفها العين المجردة لضآلتها. يتناول الإنسان طعامه، فيتحول في دقة متناهية كل جزء ينتفع به من غذائه إلى طاقة أو إلى بناء الأجهزة المختلفة، فالعظام أو الدم أو نسيج الجلد أو أجهزة العين أو السمع أو الدماغ أو العضلات إلى آخر القائمة الطويلة، هي متحركة ما دام الإنسان حيا، والطاقة المحركة لها لتقوم بوظائفها تتجدد باستمرار. وإذا لم يتجدد الإمداد بالطاقة أو تراكم بمقدار أكثر من الحاجة المضبوطة حصل الاختلال وفقد الإنسان تبعا لذلك على نسب متفاوتة قدراته، من الضعف والوهن إلى أن يصل الأمر إلى الموت.
مرض السكري :
يفرز البنكرياس السليم هرمون الأنسولين بكمية كافية تستجيب لتأثيره خلايا الجسم.
بحث للأستاذ د مشعل يقول فيه: إن هذا الهرمون له فاعلية أساسية في عمليات الاستقلاب والتعامل مع الغذاء بشكل عام، ومع السكر بشكل خاص لإنتاج الطاقة اللازمة للجسم ولبناء الأجهزة المختلفة، ويؤدي فقدانه الكمي أو النوعي إلى تراكم السكر في الدم بدرجات لم تتعود عليها أنسجة الجسم، مما يتسبب في إحداث اختلالات عديدة قد تظهر على المدى القريب أو البعيد[26]. يتبين من ذلك أن مرض السكري هو نتيجة اختلال في هرمون الأنسولين، إما بتعطل البنكرياس عن إفرازه تماما أو هبوط ما ينتجه عن الكمية اللازمة. وفي حالات قليلة عدم الاستجابة لهذا الهرمون وعدم التفاعل معه
ونظرا للتقدم العلمي في الميدان الطبي في مختلف اختصاصاته فقد وصل العلماء إلى أن مرض السكري أنواع, وتمكنوا من تحديدها ومن التعرف على خصائصها وأسباب حدوثها.وهي حسبما ذكروه تتنوع إلى الأنواع الآتية:
1) مرض السكري من النوع الأول
2) مرض السكري من النوع الثاني
3) مرض سكري الحمل.
4) أنواع أخرى كالناتج عن بعض أمراض البنكرياس، أو عن اختلالات هرمونية, أو الناتج عن تناول بعض الأدوية....
السكري من النوع الأول :
يصاب الإنسان بهذا المرض إذا أصبح البنكرياس لا يفرز هرمون الأنسولين تماما. ويمكن أن يصاب به الإنسان في أي مرحلة من مراحل عمره من الطفولة إلى الشيخوخة. وقد وصل العلماء لمعرفة أسباب هذا التعطل.
و الاكتشافات التي تمت وخاصة التقدم الذي حصل في زرع الأعضاء ومنها البنكرياس, و علم الجينات لتنشيط البنكرياس حتى يمد الجسم بما هو في حاجة إليه من الأنسولين. كل ذلك مبشر بقرب الظفر بتمكن الأطباء بعون الله من شفاء مرض السكري هذا.
ولكن قبل أن يتحقق في الواقع ما ينتظره المرضى وأطباؤهم وأهلهم من تمكن العلم من شفاء مرضى السكري، فإن هؤلاء المرضى لا غنى لهم عن حقن الأنسولين التي يجب أن يتم تناولها تحت رقابة طبيب مختص ورعايته، الذي ينصح المريض بتحديد الكميات التي يتطلبها جسمه وأوقات تناولها ونوعها، وبهذا يستطيع الطبيب مع توفيق الله ولطفه أن يخفف من أعراض السكري وتداعياته، ويحيى المريض مع السكري حياة سوية، ويتكيف الجسم معه.
ولكن الإشكالية في قيام المريض بفريضة الصيام، إذ أن نظام حياته يختلف عن بقية العام، لأنه بتناول الدواء يحصل نظام في أجهزته وتكيف فيها يحصل به ما ذكرناه من تأقلمه مع مرض السكري المصاب به. وهذا النظام يختل في فترة الصيام.
ولكن مع ذلك فقد تيقن الأطباء من أن الجسم يستطيع التكيف مع الصيام لضمان استمرار قيام الأجهزة المختلفة في الجسم بنشاطها، وأنه بعد أن تستنفد أجهزة الجسم ما حصلت عليه في طعام السحور، يستمد كل جهاز ما هو في حاجة إليه من المخزون في الكبد أو من الدهون، بطريقة محكمة وعجيبة جدا، ما توصل العلم بعد إلى فتح جميع أسرارها.
ولكن الذي يمكن أن يحدث لمرضى السكري هو أن يهبط المخزون من السكر وقد تؤدي هذه الحالة إلى غيبوبة أو ما هو أخطر منها.
وبما أن مرضى السكري من هذا النوع بعضهم يأخذ جرعة واحدة من الأنسولين في اليوم، وبعضهم ينصحه الطبيب بأخذ أكثر من جرعة في اليوم، ويضطرب مستوى السكر عندهم، وخاصة المصابون من الشباب والشيوخ، فإن حكم الأخذ برخصة الإفطار تختلف.
فالنوع الأول الذي يكتفي فيه المريض بجرعة واحدة من الأنسولين في اليوم، وكان مستوى السكر عندهم منتظما، ولم يحدث أن هبطت عندهم كمية السكر في الأشهر الثلاثة قبل شهر رمضان، فإن الأصل أن الطبيب المباشر لا ينصحه بالإفطار، بل إن كثيرا من الذين ظهرت عندهم أعراض السكري مع زيادة في الوزن، قد تبين أن الصيام إذا صحبه نظام في التغذية نوعا وكما، فإنه يكون مساعدا على التغلب على المرض. لكن إذا وجد من نفسه مشقة في الصوم زائدة على ما يصحب الصيام عادة، فإن ما حرره الإمام مالك أن زيادة المشقة تعطي للمسلم الأخذ بالرخصة كما بيناه أعلاه.
والذي نؤكده أنه لا غنى عن استشارة الطبيب وتطبيق نصائحه فيما يتناوله من الأغذية والطعام في صيامه.
أما النوع الثاني الذي يأخذ أكثر من جرعة من الأنسولين في اليوم، والذين لا ينتظم عندهم السكر بل يعلو وينزل، وخاصة الشباب والشيوخ, فإن الأصل أن الطبيب المباشر لهم ينصحهم بالإفطار، ولا بد لهم من التشاور مع الطبيب قبل شهر رمضان.
وأنه إذا كان يظن أن الصيام يعرض حياتهم للخطر، أو يضاعف مرضهم، أو يعرضهم إلى تفاعلات خطيرة، فإن عليهم أن يمتنعوا من الصيام. والمؤمن مؤتمن على جسمه ليس له أن يعرضه للخطر.
روى ابن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم.قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصَليا. فقال له سلمان:إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان [27]. وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق[28] . الثقافة الدينية = بحمد الله نجد أن كثيرا من المسلمين يتسابقون إلى مرضاة الله والإقبال على الطاعات والقيام بما أوجبه عليهم، وخاصة في شهر رمضان، ويثقل عليهم أن يفطروا، إذا كانوا مرضى، وأعضاء أسرهم وأصدقاؤهم صائمون، فيحملون أنفسهم جهد الصيام وهدفهم الفوز برضوان الله في هذا الشهر. وهذه مظاهر إيجابية بالنظرة الأولى. ولكن الطاعة لا تكمن في المشقة كما وردت بذلك أحاديث كثيرة, وحقق ذلك الشاطبي. بل الطاعة التي تُقرب من الله زلفى هي أن يكون المؤمن على صلة بربه، وأن يحافظ على هذه الصلة في جميع ظروف حياته. ولذا فإنه إذا كان الصيام سيفضي إلى انقطاع الصائم عن كثير من العبادات بإعراضه عن الرخصة، وأنه في النهاية سيعجز عن الصيام وينقطع أيضا عن بقية العبادات التي كان يمكنه أن يتقرب بها إلى الله لو أخذ بالرخصة، فإنه يظهر تبعا لذلك أن عدم الأخذ بالرخصة ينتهي إلى نقيض ما قصده. ويظهر بجلاء حرمة الصيام إذا كان مفضيا للهلاك. لكن لو ارتكب الإثم وصام فإن صيامه صحيح.
مرض السكري من النوع الثاني :
هذا هو النوع الأكثر انتشارا، ويعود سببه إلى عدم قدرة خلايا الجسم عن الانتفاع بالأنسولين الذي يفرزه البنكرياس، واستمراره يفضي إلى تعطل البنكرياس عن القيام بوظيفته، وللسمنة وثقل الوزن دور كبير في حيلولة تعامل خلايا الجسم مع هرمون الأنسولين.
والغالب أن هؤلاء يستطيعون بعون من الله أن يتغلبوا على مرضهم إذا هم التزموا بنظام غذائي صحي، و مارسوا الرياضة وخففوا من أوزانهم.
وقد أظهرت النتائج أن عددا غير قليل من هؤلاء تم شفاؤهم ولم يعد مرض السكري للظهور عندهم.
صيام أصحاب هذا النوع الثاني :
الأصل أن هؤلاء يستطيعون الصوم إذا لم يخش الطبيب من تفاقم المرض عندهم أثناء الصوم. ولذا فإنهم إذا كانوا لا يجدون مشقة زائدة في الصيام فإنه يحرم عليهم الإفطار عند أصحاب المذاهب الأربعة. لكن إذا لقي الصائم حرجا ومشقة من الصيام فله أن يأخذ بالرخصة.
التأكيد الأول :
أريد أن أؤكد على مريض السكري كغيره أن لا يعتمد في قرار صومه على ما يأخذه من النشريات الصحية والجرائد والمجلات. بل عليه أن يراجع الطبيب المختص، وهو الذي يستطيع أن يبين له وضعه الصحي الحقيقي:هل يتمكن من الصيام دون أن يعرض نفسه للخطر، أو إن الصيام يعرضه لمضاعفات خطيرة الله أعلم بما تؤول إليه ؟ وهذا ما جعلني عدلت في بحثي هذا عن التدقيقات الطبية التي ذكرها الأطباء في بحوثهم حتى لا يعتمده القارئ له ويبني عليه وحده قراره في الصوم أو الفطر .
التأكيد الثاني :
إن العلوم الطبية ليست من العلوم الصحيحة اليقينية، ولذا فإن المستوى العلمي الطبي في تطور مستمر، و باستمرار تظهر في العالم اكتشافات جديدة، سواء في ضبط أعراض المرض وتطوره، أو في طريقة العلاج، أو في الأدوية والأمصال. وهذا ما يفرض على المريض أن يتجدد عوده إلى الطبيب ليتخذ قراره على بصيرة إما بالصوم أو بالأخذ بالرخصة، ولا يعتمد على ما قرره له الطبيب في العام الماضي.
مرض سكري الحمل :
هو السكري الذي يظهر على بعض النساء في فترة الحمل ، ونسبة إصابة النساء الحوامل به بين 7 و10% . والأم في هذه الحالة بحاجة إلى تناول الكمية اللازمة من الأنسولين التي يقدرها الطبيب كما ونوعا، وذلك للحفاظ على سلامتها وعلى سلامة الجنين وخاصة على جهازه العصبي. وهذا أمر متفق عليه بين الأطباء.
الطبيب الذي يعتمد :
يقول ابن نجيم: معرفة خطر الصيام باجتهاد المريض، والاجتهاد غير مجرد الوهم بل هو غلبة الظن، عن أمارة أو تجربة، أو بإخبار طبيب مسلم غير ظاهر الفسق، وقيل عدالته شرط[29]. وفي الدر المختار: بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور، وأفاد في النهر تبعا للبحر جواز التطبب بالكافر فيما ليس فيه إبطال عبادة.يعقب الحصكفي بقوله: وفيه كلام لأن عندهم نصح المسلم كفر.
ويعلق ابن عابدين فيقول: أما الكافر فلا يعتمد على قوله، لاحتمال أن غرضه إفساد العبادة. كما يعلق على قوله مستور وقيل عدالته شرط، وجزم به الزيلعي، وظاهر ما في البحر ضعفه.
وإذا أخذ بقول طبيب ليس فيه هذه الشروط وأفطر، فالظاهر لزوم الكفارة كما لو أفطر بدون أمارة ولا تجربة لعدم غلبة الظن. والناس عنه غافلون[30]. ويقول الحطاب: ويقبل قول الطبيب المأمون :أنه يضر به الصوم[31] . ويقول العدوي: بقبول طبيب عارف ولو ذميا عند الضرورة كما قاله البدر[32]. المواصفات التي نستطيع استخلاصها من هذه النصوص:
أ) المعرفة وحذق الصناعة =اتفق كلام الفقهاء على أن الطبيب لا بد أن يكون عارفا. والمعرفة في زماننا يضمنها قبول الطبيب لمباشرة الطب حسب نظام الدولة التي يعمل فيها.
ب) العدالة = قبل بعضهم أن يكون غير ظاهر الفسق مستور الحال، واشترط بعضهم ظهور العدالة. والرأي عندي أن لا يكون الطبيب المسلم قد عرف منه التهاون بالدين وعدم الالتزام بأحكامه، من المستغربين الذي وهنت صلاتهم بالإسلام، ونفسية كثير منهم أن يشاركهم في التهاون بالصوم أكبر عدد من الناس. أعرف طبيبا ماهرا في أمراض المعدة كان يلزم مرضاه بالإفطار في شهر رمضان على أن الصيام يعرضهم حتما إلى حصول ثقب في المعدة بما يتجمع من الحامض الذي تفرزه, مع أن الصيام وأخذ الدواء المعطل للإفرازات هو يساعد على الشفاء التام كما حققه لي كثير من مهرة الأطباء في هذا الاختصاص.
ج) الإسلام = الراجح عند الحنفية أنه لا يعتمد الطبيب الكافر.وبنى على ذلك ابن عابدين أنه لو أفطر تبعا لنصحه أن عليه الكفارة.و انفرد العدوي بالتفرقة بين الضرورة وعدمها فأجاز اعتماد قول الطبيب الذمي عند الضرورة.
ولعل الأولى بالقبول: أن العبرة بغلبة الظن، وغلبة الظن تقتضي أن يبذل المجتهد غاية ما يمكنه من البحث عن الحقيقة. وهذا كما يعبر عنه حذاق الفقهاء، هو اختلاف في حال. فإذا كان المسلم مقيما في بلد يجد فيه من أهل الخبرة من الأطباء المسلمين، فلا يعتمد في الترخص إلا على قول طبيب مسلم، أما إذا كان في بلد لا يجد فيه طبيبا مسلما، والطبيب الذي يعالجه كامل أيام السنة كافر، وقد ظهر له صدقه وخبرته، فإذا شرح له مستوى مرضه وما يترتب على صيامه من أخطار، وحصل عنده ظن قوي بصدقه وأمانته، فله أن يعتمده وهو غير آثم إذا أخذ بالرخصة وأفطر. وأعتمد في هذا على نظير لذلك ، وهو ما شرعه الله للمسافر عند كثير من العلماء أن يُشهِد على وصيته غير المسلمين إذا حضره الموت و لم يجد حوله من يتحملها من المسلمين العدول. قال تعالى: }يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ { [33]. يقول الشيخ ابن عاشور: ( معنى منكم ) من المؤمنين.... وعلى هذا درج جمهور المفسرين، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والأئمة الأربعة.وهو الذي يجب التعويل عليه، وهو ظاهر الوصف بكلمة (منكم) في مواقعها في القرآن.
ويترتب على هذا التفسير أن يكون معنى مقابله << من غيركم >> أنه من غير ملتكم. فذهب فريق ممن قالوا بهذا التفسير إلى إعمال هذا، وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصة. وخصوا ذلك بالذمي. . وهو قول أحمد والثوري، وسعيد بن المسيب، ونسب لابن عباس، وأبي موسى. وذهب فريق إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: }وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ {وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، ونسب إلى زيد بن أسلم[34] . وناقش ابن العربي من ادعى النسخ بأن سورة المائدة من آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، وأن النسخ لا يصار إليه إلا مع التعارض، ولا تعارض بين آية الوصية وآية الدين[35] . ونظير هذا أيضا ما ذكره النظار من الفقهاء وأول ما رأيته لابن عبد السلام , ثم انتشر تأييد هذه الفتوى في جميع الأعصار بعده , وهي كما يقولون أنه إذا فسد الزمان[36] تبعا لعوامل متعددة و انحل المجتمع الإسلامي، وصعب على من يريد أن يوثق حقوقه بالشهادة ، صعب عليه أن يجد العدل الرضا، فإنه يشهد مستور الحال في التحمل , ويعتمده القاضي عند أداء شهادته بين يديه ويحكم بها، مع أن الآية صريحة في اشتراط العدالة < وأشهدوا ذوي عدل منكم - ممن ترضون من الشهداء.> لأنه في هذه الحالة لو وقفنا عند منطوق الآية لضاعت حقوق الناس وتعطلت مصالحهم. واشتراط العدالة والرضا هو من أجل الحفاظ على حقوق البشر.فهذا المقصد الشرعي المتحقق بتتبع موارد الشريعة في أكثر من موضع هو الذي هداهم إلى الفتوى بقبول مستور الحال. واليوم مع انتشار المسلمين في جميع بقاع الأرض , وما فرض من تقنينات الجنسية وتحديد الهجرة , هو ما جعل كثيرا من المسلمين مجبورين على الإقامة في بلاد الكفر , ويعرضون أنفسهم عند اختلال صحتهم في تلكم الظروف على الطبيب غير المسلم إذ لا يجدون طبيبا مسلما عارفا ثقة يعتمدونه, والتجربة المتكررة كشفت عن ثقة في عديد من هؤلاء الأطباء غير المسلمين , ففي هذه الحالة يأخذ المريض بالسكري على ما يصفه له الطبيب غير المسلم في معالجة مرضه ,و يعتمد ما ينصحه به من الصيام أو الأخذ بالرخصة.
و الله أعلم وأحكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وصلى الله على سيدنا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.