الحمد لله وحده ـــ والصلاة والسلام على من لا نبي بعــده .. وبعــد :-
الغراب والجرة درسٌ تعلمناه في الصف ( الثالث ) الابتدائي ــ ويحكي قصة غراب أوشك على الهلاك عطشاً وفي أثناء بحثه وجد جرة بها ماء , ولكن الماء في قعر الجرة , ولا يقوى الغراب على كسرها وهنا وجد الغراب أن حياته معلقة بعد الله في هذا الماء , أو أنه سوف يواجه الموت القاسي ويصبح خبراً بعـد أثـر ــ حينها تخلى عن القوة وأمعن التفكير , فقام بجمع الحصى وألقاه في الجرة وكلما تساقط الحصى داخل قاع الجرة أرتفع الماء إلى الأعلى رويداً فرويدا , وهكــذا أستمر الغراب في الجمع حتى بلغ الماء القدر الذي أستطاع أن يشربه.
إنها قصة درسناها ونحن صغار , وبحكم صغر السن لم نحسن الاستفادة من دروسها وعبرها ولـــذا..أحببت أن أكتب بعض الدروس التي تجول في مخيلتي.
أولاً : إن ذلك الغراب الذي يجوب في الفضاء بأجنحته , ويقتل الثعابين السامة , وعلى دراية تامة بمواقع الأرض ، إلا أنه كاد أن يهلك , وكذلك الإنسان مهما بلغ من الذكاء والقوة والإمكانات والعلاقات , إلا أنه سيبقى محتاجاً , وسوف يكون في موقف لا تغني عنه تلك المقومات شيئاً ويبقى وحيد التفكير والتأمل , حينها يعلم أهمية الاعتماد على الذات , ويتعلم أن تلك الإمكانات قد لا تسقيه شربة ماء.
ثانياً : حاول الغراب تناول الماء دون فائدة , وحاول كسر الجرة , ولكنه فشل ــ ولعله دار حولها وعليها عدة مرات , وكذلك نحن البشر , مأمورين بعدم اليأس وأن نكـرر المحاولة , وأن لا نيأس لأننا لو بلغنا ذلك فسوف نهلك , وقد يفشل الإنسان عدة مرات , ولكنه مع كل محاولة فاشلة يقترب إلى الحل أكــثـر , وكل واحدٍ منا له حاجة معينة , وقـد تكون ملحة , فمن تخلى عنها فلن يصل إليها , وقـد لا يتمكن من رؤيتها أبداً.
ثالثاً : كيف علم الغراب بتلك القاعدة الفيزيائية , فقام بإلقاء الحصى داخل الجرة ليرتفع الماء إلا لسبب واحد , وهو الحاجة الماسة , وكثرة المحاولات والتجارب , فهو لم يدرس ولا يجيد القراءة والكتابة , ولكنه طبق قانوناً يدرس في الجامعات , وكذلك أنت فقد تصل إلى نجاحات عديدة , ولكن يجب أن تثق بنفسك وقدراتك , وأن تكون جاداً , وصاحب همةٍ لا تلين وهدفٍ واضح , فالغراب هدفه الماء , وأنت ماذا هدفك الذي من أجله تعيش , أمّا الذين لا هدف لهم ـــ فهم أموات في أجسادٍ حيّة , يعيشون على الفتات ، بل على أكتاف الآخرين.
رابعاً : لقد سعى ذلك الغراب بفطرته وحنكته إلى أحجام متقاربة للحصى ، فهو يعلم أن الكبيرة لن تدخل إلى قاع الجرة ، ولن يستطيع على حملها , وأن الطين يمتص الماء ـــ وهكــذا أنت : فهناك طموحات غير واقعية , ولن تدخل حيز حياتك ، فلا تضيع فيها الوقت والجهد , وليس النجاح بكبر الهدف , وإنما النجاح بفائدة الهدف ، كما أن هناك أهداف طينية تعكر صفو الحياة وتختزلُ شخصيتك ، وتصبح إنساناً دونياً وعبئاً على نفسك أولاً ـــ وعلى بقية أفراد المجتمع وحينها تهلك معنوياً ـــ وهو الهلاك الحقيقي.
خامساً : لم يسأل الغراب نفسه عن صلاحية الماء ـــ فهو ميتٌ إن لم يشرب ، فتساوت لديه النتيجة ولكنه كان ذو أملٍ في النجاة , وكــذلك أنت ــ قد تلجئك الحياة إلى مواقف عسيرة وحينها سوف تقدم تنازلات , أو بالأحرى ترضى بالحال , ولكن الذكي الذي يستثمر المواقف ويصنع من الضعف قوة , ولا ما نع أن ينصاع العبد لظروف الزمن , ولكن لا يجب الاستمرار على تلك الحال , لأنها محطة وقتية , ومرحلة انتقالية ، لا يمكن المرور , إلا من خلالها وكثيرٌ من الناس يحبسه الكبرُ والغطرسة والفوقية ، والإنشغالية الجوفاء , فيكون بذلك قد حكم على نفسه بالهلاك وأنت أخي لا بـد أن تتهيأ نفسياً لقوارع الزمن ، التي هي في الحقيقة نقطة نشاط وحيوية واستراحة محارب , ومحطة تزود بالوقود.
سادساً : كم تتوقع الوقت الذي استغرقه ذلك الغراب لرفع الماء بالحصى , وكم الجهد الذي بذله على ما يعانيه من العطش والتعب , وهذا دليلٌ على أن الصبر والهدوء لا بد من التسلح بهما في المواقف الحرجة , وأن الهدف لن يتحقق من أول كلمة تلقيها , ولا من أول فكرة تنشرها أو من أول سنة تعمل فيها , إنك بحاجة إلى أفكارٍ وسنواتٍ وجهدٍ وصبر ـــ بعضها يدعم بعض إلى أن تصل إلى جزء بسيط , ولا إلى كل ما تريد ـــ فإن الغراب حصل على شيء بسيط من الماء ليسد به رمقه ، وليدفع عنه الموت ، وأنت بعملك الدؤوب لتحقيق هدفك ، فقد لا تحصل على كل ما تريد ، ولكن سوف تحقق شيئاً من أهدافك النبيلة ـــ شرط ذلك أن تكون متابعاً وحريصاً على البذل والتضحية ، فإن الغراب لم يسترح حتى حقق هدفه ـــ فإذا ركنت إلى الراحة فدع تحقيق الأهداف لغيرك.
سابعاً : لعل ذلك الغراب أخذ الحصى من عدة اتجاهات ، ومن مسافات متباعدة ، لأنه ملزمٌ بمقاسٍ ونوعية محددة , وأنت كـذلك مطالبٌ بالاستفادة من كل الأفكار , ولكنها أفكارٌ متقاربة وتدعم توجهك الشريف ـــ فقد تجد بعضها في متناول اليد ، وبعضها بحاجةٍ إلى جهدٍ وبذلٍ وتضحية , وهناك أفكارٌ لا بد من جمعها من اتجاهات عديدة , ومن أشخاص قـد تختلف معهم. هدفك هو الاستفادة , وأن تحقق الهدف الذي من أجله تسعى.
ثامـناً : الماء ليس الهدف الحقيقي للغراب في الحياة ، ولكنه أصبح الطريق الذي من خلاله تتحقق الأهداف , ومن هذا نخرج بأمرين ــ هما.
ا -) هناك أهداف لا يمكن أن تتحقق إلا بعـد مجاوزة عقبات , ومراحل صعبة , وجهدٍ مبذول ومحاولات عدة ـــ سوف تجدها أثناء سيرك.
ب -) هناك أهداف آنية , وأهداف إستراتيجية , وأهداف مرحلية , وأهداف حياتية ـــ ينبغي أن تفرق بينها ، وأن تفهم أن هناك أهداف إذا تحققت , حققت أهداف أخرى ـــ وكثيرٌ من الناس يحققون الأهداف الآنية : من زواج ، أو بناء مسكن جميل ، أو ركوب سيارة فارهة ، أو الحصول على مصدر رزق ، أو الحصول على وجاهة معينة , وهـكـذا يقضي حياته في حلقة لا نهاية لها أمّا أنت فيجب أن تكون أهدافك بعيدة المدى ـــ ليس شرطاً أن تحققها أنت ، ولكن الصحيح أن يحققها غيرك ـــ وهي أهداف تخدم الأمة والمجتمع ـــ وأهدافٌ تعتبر صدقات جارية تضاعف من خلالها حسناتك.