رفع قيمة الآخرةيُعدّ هذا
الأسلوب من أروع الأساليب في تربية الصف المؤمن على التحمُّل والجلد والصبر.
وهو
توسيع لمدارك المسلم كي يعلم المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب
ومشاق وألم وغيره، وبين الآخرة وما فيها من جنة ونعيم وخلود أبد الآبدين.
فأيُّ إنسان أحمق ذلك الذي
يقدم على شراء الدنيا، حتى ولو أخذها كاملة -وهو يعلم أنها فانية- بالآخرة تلك
الباقية التي لا تفنى ولا تزول؟!
فبيت
القصيد هو أن يؤمن الإنسان بالآخرة، وبيت القصيد هو أن يدرك أبعادها المختلفة عن
أبعاد الدنيا، ومقاييسها العجيبة وصفتها النادرة.
ولأهمية هذا الأمر فكثيرًا ما
تجد في القرآن الكريم أن الله ما إن يذكر الإيمان به إلا ويجمع معه الإيمان باليوم الآخر فقط.
فإذا أدرك الناس أن هناك
يومًا سيحاسبون فيه على ما يعملون، وكان هذا علمًا يقينًا منهم، وإذا أدركوا أن
الذي سيحاسبهم هو إله قادر عليم حكيم جبار قاهر، إذا علموا ذلك علمًا يقينًا فإنهم
-ولا شك- سيعملون لهذا اليوم.
ومن هنا كانت أول كلمة
قالها الرسول في بداية دعوته هي: "وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ،
وَلَتُحَاسَبُنَّ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا لَجَنَّةٌ أَبَدًا أَوْ نَارٌ
أَبَدًا".
وإننا نعاني -أحيانًا-
خللاً تربويًّا خطيرًا وهو عدم التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيوننا وعيون
المؤمنين، خاصة إذا كانت الدعوة مضطهدة، وإذا كان الظلم مستفحلاً، وإذا كان
الأعداء كُثُرًا، وإذا كان الظلام شديدًا!
فلنلاحظ القرآن المكي، ولننظر
كم يتحدث عن الآخرة وعن الجنة وعن النار، إذ لا تكاد تخلو سورة منه من التذكير
باليوم الآخر، أو بالجنة أو بالنار.
ولنلاحظ
تعظيم القرآن الكريم لليوم الآخر حين يقول I: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
* وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ
* وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ
* وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ
* وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ
* وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ
* وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ
* وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ
* وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ
* وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التَّكوير: 1- 14].
وقوله
تعالى أيضًا: {إِذَا
السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ
* وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ
* وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ
* وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ
* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 1- 5].
ولنعشْ
ولو قليلاً في تلك الجنة التي كانوا يعيشون فيها وهم ما زالوا على ظهر الدنيا،
ولنتخيل وكأننا أحد الصحابة الذين يجلسون في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه
الآيات وبالخارج ينتظره تعذيب شديد، كم هو حجم مثل هذا التعذيب بالنسبة إلى ما
يسمعه في وصف الجنة؟!
الواقع
أنه لا شيء؛ فأيُّ ألمٍ يقارن بالخلود والنعيم، لا شك أنه يساوي صفرًا، يقول تعالى
في وصف الجنة: {وَجَزَاهُمْ
بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا
* مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ
فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا
* وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
* وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ
قَوَارِيرَ
* قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا
* وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلاً
* عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً
* وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ
حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا
* وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا
كَبِيرًا
* عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا
* إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُورًا} [الإنسان: 12- 22].
ولنتخيل
مؤمنًا يسمع هذه الآيات ويعيشها بقلبه، ثم يأتي عدوه ويحرمه جرعة ماء في يوم صائف،
أو يجلده أو يصلبه أو حتى يقتله، فما الضرر في ذلك؟ أليس هو منتقلاً بالكلية من
هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟!
وإذا سمعت كل آيات القرآن
الكريم في مكة بهذا المفهوم، وبأذن ذلك الصحابي الذي يعذب، ستجد أن التعذيب ليس له
قيمة تذكر.
لقد كان الموت خلاصًا
للمؤمنين وراحة للصالحين؛ وذلك لأنهم يشتاقون إلى الجنة، ولا يصبرون طول البعاد
عنها.
ومما
سبق نستطيع أن ندرك ونتفهم أحداثًا عجيبة قد حدثت في سيرتهم رضوان الله عليهم،
نستطيع أن نتفهم موقف عمير بن الحُمَام t حين عد الدقائق التي سيأكل فيها التمر حياة طويلة، فألقاها من يده
وذهب يستقبل الموت؛ وذلك أن رسول الله كان قد ذكّره بالجنة التي يعرفها، والتي يشتاق إليها، وهنا أصبح
الموت في سبيل الله غاية له.
ونستطيع أيضًا أن نتفهم
أحداثًا قد تكون غريبة على أسماعنا، والتي كان منها -على سبيل المثال- موقف حرام
بن ملحان t حين طُعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره، فقال من فوره: "فزت
ورب الكعبة".
علم أنه قد فاز؛ لأنه
سينتقل مباشرة من أرض الجهاد إلى الجنة، وعلم أنه فاز لأنه سيموت شهيدًا، وقد وُعد
أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.
ومن خلال هذا نعلم أن
تعظيم قيمة الآخرة يُصَبر المؤمنين -لا محالة- على كل ألم، وعلى كل أذى، وعلى كل
مشقة في سبيل الله .
وعلى
الجانب الآخر، ولكي تصبح التربية متوازنة والأمور لا إفراط فيها ولا تفريط كان
الحديث عن النار، فبديل الجنة ليس عدم دخول الجنة فقط ولكن دخول النار.
ولما
فقه الصحابة المؤمنون أمر النار وعلموا أنها خلق عظيم اجتهدوا في الابتعاد عنها
والهروب منها، ثم إنهم لما أدركوا عذابها ولهيبها وحميمها، لما أدركوا كل ذلك هان
عليهم كثيرًا ما يفعله المجرمون بهم؛ فتحملوا الألم المؤقت في دار الدنيا لينقذوا
أنفسهم من الألم الدائم في دار الآخرة.
وهو تمامًا كما يقوم مريض
الزائدة الدودية -مثلاً- بالسعي إلى إجراء عملية جراحية لاستئصالها، أليس في إجراء
مثل هذه العملية كثير ألم؟ أوَليس في تكاليفها كثير إرهاق؟ أوَليس في الانقطاع عن
العمل أثناء وبعد إجرائها كثير تعقيد؟!
غير أنه ورغم كل هذه
الآلام فإنه بغيرها سيفقد المريض حياته، وهنا يعقد المريض موازنة يتحمل فيها تلك
الآلام المؤقتة في مقابل الشفاء الدائم.
وهكذا أيضًا كان المؤمنون
قد فقهوا أمر ما ينزل بهم، فكانوا يتحملون آلامًا قد يظنها البعض عظيمة، إلا أنها
في نهاية الأمر غائية ومحدودة، بل وضئيلة جدًّا إذا ما قورنت بالعذاب الأليم
والشديد في نار جهنم.
ومن هنا كان رفع قيمة
الآخرة في أعين الصحابة وسيلة ربانية حكيمة في جعل المؤمنين يصبرون، ويتحملون
الأذى والعذاب الدنيوي.