ِوِقفَةٌ مع قوله تعالى:”وَعـِنـْدَهُ مَفاتِحُ الغَيب”، وما هي الغيبيَّات الخمسة؟ الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما
بعد: فقد استمعنا إلى قول الله عزَّ وجلَّ: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ
فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ } [الأنعام:59].
هذه
الآية الكريمة من أنصع آيات العلم تفصيلاً، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر
فيها مفاتح الغيب، ثم ذكر فيها تفاصيل أخرى، ومفاتح الغيب بيَّنها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهي مذكورة في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان:34].
هذه خمسة أمور
عِلم الســاعة
تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة)
قال
تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } وهو يوم القيامة،
وهنا قال: { عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } قدم الخبر ليفيد الاختصاص، فمن
ادَّعى علم الساعة فهو كاذب وكافر، ومن صدَّقه أيضاً فهو كافر؛ لأنه لا
يعلم متى تقوم الساعة إلا الله عزَّ وجلَّ، حتى قال الله لرسوله: {
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } [النازعات:42-44].
وقال: { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } [الأحزاب:63].
وقال
جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول
عنها بأعلم من السائل ) جبريل عليه الصلاة والسلام أشرف الملائكة وأعلمهم،
يسأل محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف البشر وأعلمهم عن الساعة، فيقول له: (
ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) يعني: إن كنتَ تجهلها أنت فأنا كذلك
أجهلها؛ لأنه لا يعلمها إلا الله.
نعم، للساعة أشراط، يظهرها الله عزَّ وجلَّ مُقَدِّمَة لتلك الساعة؛ لأن الساعة حدث عظيم، فلهذا صار له مقدمات تشير إلى قُربه
الغيث…المطر
تفسير قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ الغَيثَ)
| هذه الصورة مصغره ... إنقر هنا لعرضها بالمقاس الحقيقي ... المقاس الحقيقي 1728x1152 . |
قال تعالى: { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } [لقمان:34].
الغيث:
المطر، وهو -أي: المطر- غيثٌ ولكن الله سبحانه وتعالى قد لا يجعله غيثاً؛
لأن الغيث قد لا يحصل به الإنقاذ من الشدة، وأحياناً يَنْزِل المطرُ ولا
يكون إنقاذاً من الشدة، كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ( ليس السنة ألا تُمْطَروا -يعني: ليس الجدْب ألا تُمْطَروا- وإنما
السنة أن تُمْطَروا فلا تنبت الأرض شيئاً ) وصدق النبي عليه الصلاة
والسلام، الغيث يُنَزِّله الله عزَّ وجلَّ، لا أحد يستطيع أن يُنَزِّل
الغيث، مهما كانت قدرته وقوته، لا يمكن أن يُنَزِّل الغيث أبداً؛ لأن ذلك
خاص لله عزَّ وجلَّ، والذي يخلق الغيث هو الله، ولهذا كان النبي عليه
الصلاة والسلام إذا نزل المطر حَسَرَ عن ثوبه ليصيب بَدَنَه، وقال: ( إنه
حديث عهدٍ بربه ) أي: مخلوق جديد، فيصيب بدني من حين أن خُلق، ولا أحد
يستطيع أن يخلق إلا الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } [الحج:73] استمعوا، الله عزَّ
وجلَّ يطلبنا أن نستمع: { فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ }
[الحج:73] هذا الذباب الضعيف المهين لا يمكن أن يخلقه أحد ممن تدعونه من
دون الله، ولو اجتمعوا له.
انظر هذا تحدٍّ، تحدٍّ بالآيات الكونية.
وهناك
تَحَدٍّ بالآيات الشرعية: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء:88] فالله عزَّ
وجلَّ يتحدى الناس، يتحدى الخلق بالآيات الكونية كما في الآية الأولى،
وبالآيات الشرعية كما في الآية الثانية
عِلمُ مَا في الأرحامِ
تفسير قوله تعالى: (ويعلم ما في الأرحام)
قال
تعالى: { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } [لقمان:34]: يعلم ما في
الأرحام، ماذا نظن المراد بالأرحام في هذه الآية؟ هل الأرحام بنو آدم، أو
بنات آدم؟
الجواب: لا.
بل
أرحام كل ذات رحم، من بنات آدم، وسائر الحيوانات، يعلم عزَّ وجلَّ ما في
أرحامها، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله سبحانه وتعالى الذي خلقها، لا
يعلم ما في الأرحام إلا خالقها سبحانه وتعالى
الرِّزق
تفسير قوله تعالى: (وما تَدْري نَفسٌ مَاذا تَكسِبُ غَدًا)
قال
تعالى: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } [لقمان:34]: صدق
الله، لا تدري أي نفس، نفس هنا نكرة في سياق النفي فتشمل كل نفس، لا تدري؛
أي نفس- مهما بلغت في الفراسة-، ومهما بلغت في الذكاء، لا تدري ماذا تكسب
غدًا، نعم الإنسان يخطط بأنه سوف يعمل غدًا كذا وكذا؛ ولكن هل ذلك يتم؟
الجواب
قد
يتم وقد لا يتم؛ لكن لا تدري يقيناً بأنك غداً تكسب كذا وكذا، أبداً: {
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ } [الكهف:23-24].
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } كلمة غد، هل المراد بها اليوم الذي يلي يومك؟ أو مستقبل الزمن؟ مستقبل الزمن.
يعني: اليوم الذي يلي يومك وما بعده وما بعده لا تعلم ماذا تكسب فيه
بأيِّ أرض تموت؟
تفسير قوله تعالى: (وَمَا تَدرِي نفسٌ بأيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)
قال
تعالى: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان:34]: أي
نفس لا تدري بأي أرض تموت، تجد الإنسان يولد في بلد، ويعيش فيها، ولا يطرأ
على باله أن ينتقل عنها، ثم إذا أراد الله أن يقبضه في أرض، جعل له حاجة في
هذه الأرض، تحثه إلى أن يمشي إليها، فيموت فيها، وهو لا يدري، البعير تنشأ
في جهة من جهات الأرض، تولد، تكبر، ثم تُستعمل للركوب أو غير الركوب،
وتُذبح في بلاد بعيدة عن بلادها، أو تموت في بلاد بعيدة عن بلادها، كل نفس
لا تدري بأي أرض تموت.
وهل تدري في أي يوم تموت؟! لا.
لا
تدري، من لا يدري بأي أرض -مع أنه باختياره أن ينتقل من أرض إلى أرض- لا
يدري أيضاً بأي يوم يموت، فجهالة الزمن أشد من جهالة المكان؛ لأن المكان
يمكن للإنسان أن ينتقل، يمكن يبقى في الأرض ويقول: لا أمشي؛ لكن الزمن يمشي
غصبًا عنه، لا تدري نفس بأي أرض تموت
فهذه مفاتح الغيب خمس
الشـــــيخ: ابن العُثيمين