﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴾الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأشْهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله. وبعد:قال تعالى: ﴿
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾
]النبأ: 21 - 30].
يذكُر الله في هذه الآيات الكريمات أحوالَ الأشقِياء، وما يحصُل لهم من النَّكال والعذاب السَّرْمدي في نار جهنَّم، فيقول: ﴿
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴾؛ أي: مرْصدة ومعدَّة للطاغين.
وجهنَّم اسم من أسماء النَّار التي لها
أسماء كثيرة، وسمِّيَتْ بهذا الاسم؛ لأنَّها ذات جهمة وظلمة بسوادِها
ومقرّها - أعاذنا الله منها.
وقد أعدَّها الله - عزَّ وجلَّ - من الآن، فهي موجودة، كما قال تعالى: ﴿
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾
]آل عمران:131]،
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: كنَّا مع رسول
الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذ سمِعَ وجْبةً، فقال النَّبيُّ - صلَّى
الله عليْه وسلَّم -: ((أتدْرون ما هذا؟))، قال: قُلْنا: الله ورسولُه
أعْلم، قال: ((هذا حجَرٌ رُمِي به في النَّار منذ سبعين خريفًا، فهو يهْوِي
في النَّار الآن حتَّى انتهى إلى قعْرِها))[1].
وفي صحيح مسلم من حديث جابر - رضِي الله
عنْه - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - رآها - أي: النَّار -
حين عُرضت عليه في صلاة الكسوف، ورأى النَّار فيها امرأة تُعَذَّب في هرَّة
ربطتها، لا هي أطعمتْها، ولا هي تركتها تأكُل من خشاش الأرض[2].
قوله تعالى: ﴿
لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴾، الطَّاغون: جمع طاغٍ، والطُّغْيان تجاوُز الحدّ، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾
]الحاقة:11]، والمُراد بالطَّاغين الَّذين تَجاوزوا حدودَ الله استِكْبارًا على ربِّهم، ومآبًا؛ أي: مرجعًا يرجعون إليه، ومسكنًا يَصيرون إليه.
قوله تعالى: ﴿
لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾؛ أي: باقين فيها أحقابًا؛ أي: مُددًا طويلة، وقد وردتْ آياتٌ كثيرة تدلُّ على أنَّها مدد أبديَّة، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾
]النساء: 168، 169]، وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾
]الأحزاب: 64، 65].
قوله تعالى: ﴿
لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ﴾ نفى الله - عزَّ وجلَّ - عنهم البرْد الَّذي تكون به برودة ظاهر الجسد،
والشَّراب الَّذي تكون به برودة داخل الجسد، فإنَّهم إذا عطشوا واستغاثوا
يغاثون بماء كالمُهْل، قال تعالى: ﴿
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾
[الكهف:29]، وقال تعالى: ﴿
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾
[محمد:15]، وقال تعالى: ﴿
يُصَبُّ مِنْ فَوقِ رُؤُوسِهِمْ الْحَمِيْمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾
[الحج:20]،
فمن كان حاله كذلك فإنَّهم لا يذوقون فيها بردًا ولا شرابًا يطفئ حرارةَ
بطونِهم، قال بعض السَّلف: عجبتُ للنَّار كيف نام هارِبُها، وعجبت للجنَّة
كيف نام طالبها!
قوله تعالى: ﴿
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴾ الحميم هو الماء الحارّ الَّذي انتهى حرُّه وحموه.
وغسَّاقًا: هو شراب منتن الرَّائحة شديد البرودة، قال جمع من المفسّرين: هو ما اجتمع
من صديد أهل النَّار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يُستطاع من
بردِه، ولا يواجه من نتنِه، فهم يذوقون العذاب من ناحيتَين: الحرارة
والبرودة، فإذا اجتمعت الحرارة والبرودة كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب
عليْهم، قال تعالى: ﴿
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾
[ص: 57، 58]؛ أي: ولهم أصناف وألوان من العذاب - نسأل الله العافية.
قوله تعالى: ﴿
جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ يقول تعالى: هذا العقاب الذي عوقب به الكفَّار في الآخرة، فعَلَه بهم
ربهم؛ جزاءً لهم على أفعالهم وأقوالهم السيِّئة التي كانوا يعملونها في
الدنيا، ﴿
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾
[النجم:31].
قوله تعالى: ﴿
إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴾؛ أي: لا يؤمِّلون أن يُحاسبوا، بل كانوا ينكرون الحساب، قال تعالى: ﴿
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾
]الجاثية:24]، وقال تعالى: ﴿
زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
]التغابن:7].
قوله تعالى: ﴿
وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّابًا ﴾ كانوا يكذِّبون بحجج الله ودلائله التي أنزلها على رسله، فيقابلونَها بالتَّكذيب والمعاندة، قال تعالى: ﴿
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾
]ص:4]، وقال تعالى: ﴿
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾
]الفرقان:5]، وقال تعالى: ﴿
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً *
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا
نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً ﴾
]الإسراء: 90 - 93].
قوله تعالى: ﴿
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴾ يشمل ما يفعله الله - عزَّ وجلَّ - من الخلق والتدبير في الكون، وما
يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كلَّ صغير وكبير، قال تعالى: ﴿
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾
[القمر: 53]، وقال تعالى: ﴿
وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾
]الكهف:49]، وقال تعالى: ﴿
وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾
]الأنبياء:47].
روى مسلم في صحيحِه من حديث عبدالله بن
عمْرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه
وسلَّم - قال: ((كتَبَ الله مقاديرَ الخلائق قبْل أن يَخلُق السَّموات
والأرْض بِخَمسين ألفَ سنة - قال: - وعَرْشُه على الماء))[3].
قوله تعالى: ﴿
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ هذا الأمر للإهانة والتَّوبيخ، يُقال لهم: ذوقوا عذاب النَّار فلن
نُخَفِّفه عنكم، بل لا نزيدكم إلاَّ عذابًا في قوَّته، قال تعالى: ﴿
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
]الطور:16]، وقال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾
]فاطر:36].
قال العلماء: إنَّ هذه الآية أعظم آيةٍ في التَّرهيب.
قال عبدالله بن المبارك يصِف هذه النَّار:
وَطَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرَةً فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ
فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ عَمَّا قَلِيلٍ وَلا تَدْرِي بِمَا يَقَعُ
أَفِي الجِنَانِ وَفَوْزٍ لا انقِطَاعَ لَهُ أَمِ الجَحِيمِ فَمَا تُبْقِي وَلا تَدَعُ
تَهْوِي بِسَاكِنِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ البُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ
لِيَنْفَع العِلْمُ قَبْلَ المَوْتِ عَالِمَهُ قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا
|
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحْبِه أجْمعين.