نهاية شيء ما

إرنست همنغواي
(همنجواي) أديب أمريكي معروف، ولد 1899م وتوفي منتحرا عام 1961م بعد
اضطرابات عصبية خشي معها أن يصاب بالجنون. وقد اشتهر بما نقله من انطباعات
تأثرت بالحربين العالميتين والحرب الأهلية في أسبانيا، وحصل على جائزة نوبل
للأدب (1954م) على روايته الشهيرة "الشيخ والبحر". قصته القصيرة التالية
"نهاية شيء ما" نشرت عام 1938م في مجموعة قصصية "المجموعة الأولى من 49 قصة
قصيرة"، واستعار عنوانها الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، لمقالة عن
الانتفاضة الفلسطينية نشرها يوم 30/6/2002م . أرسل بترجمة هذه القصة إلى
مداد القلم مشكورا الكاتب السوري الأصل صالح الرزوق، وله -إلى جانب ما كتب
ونشر من القصص القصيرة- باع طويل في ترجمة الأدب العالمي، ولعل من أجمل ما
نقله إلى العربية قصة "شيطنات الطفلة الخبيثة" للكاتب ماريو بارغاس يوسا،
وبين أيدينا ترجمته هذه لأقصوصة تعتبر نموذجا للقصص القصيرة لهمنغواي، وقد
نشرت بنصها الإنجليزي عام 2005م في مجلة (Short Stories Magazine).


نهاية شيء ما.. بقلم إرنست همنجواي

من الأدب العالمي.. ترجمة صالح الرزو ق

في
أيام مضت كانت هورتونس باي مدينة أخشاب. لم يفر أحد من صوت المنشار الضخم
الذي يدور في منشرة بمحاذاة البحيرة. وفي أحد الأيام لم يعد هناك ذخيرة من
الخشب لقطع إسطوانات منها. وصلت العبّارات إلى الخليج وحملت الأعمدة
المخزنة في المستودع. أخذت أكوام الخشب بعيدا. ثم أقفر مبنى المنشرة الواسع
من كل آلاته. تم فكها وحملها إلى سطح إحدى العبّارات بواسطة عمال المنشرة.
أقلعت العبّارة من الخليج باتجاه البحيرة الفضفاضة وفيها المنشاران
الأساسيان، والعربات المتحركة التي نقلت الإسطوانات الخشبية كي لا تتدحرج،
والمناشير المستديرة، وكل الإسطوانات الأخرى مع العجلات والأحزمة والحديد
وهذه جمعت فوق السفينة. يا له من حمل أخشاب باهظ. وقد تمت تغطية السطح
بقماش أحكم تثبيته، ثم بسطت الأشرعة وسارت باتجاه البحيرة الممدودة بلا
حدود. لقد حملت كل شيء جعل من المنشرة منشرة، ومن هورتونس باي مدينة.
وهكذا
أصبح صف البيوت المؤلفة من صالة واحدة والمطعم ومخزن الشركة ومكاتب
المنشرة والمنشرة الكبيرة ذاتها مكانا مهجورا، وحوله هكتارات من غبار الخشب
الذي انتشر فوق المروج المستنقعية الموازية لشواطئ الخليج.
بعد عشرة
أعوام لم يتبق هناك شيء من المنشرة باستثناء صخرة كلسية بيضاء منكسرة كانت
هي القاعدة ، الأساس. وهي على مرأى البصر من وراء موجة ثانية من الأشجار
المستنقعية شاهدها نيك ومارجوري حين كانا يجدفان على طول الشاطئ. كانا
ينصبان الطعم بمحاذاة ضفاف القناة حيث سقط مستوى القاع الرملي للسطح فجأة
بمقدار اثني عشر قدما بسبب المياه العميقة. كانا يجران خيط الطعم إلى رأس
الخليج وهناك بالعادة يضعان خيوط الفخ الليلي لصيد أنواع من السلمون ذات
الخط المبرقش(1).
قالت مارغوري: هاك منجمنا الأثري القديم يا نيك.
نظر نيك، أثناء التجديف، إلى الصخرة البيضاء بين أشجار لونها أخضر، وقال: حقا ذلك هو.
سألت مارغوري: هل تتذكر متى كانت منشرة؟.
قال نيك: بالكاد أتذكر.
قالت مارغوري: تبدو الآن أشبه بقلعة.
لم يرد نيك. جدفا بمحاذاة الشاطئ حتى غابت المنشرة عن الأنظار، ثم عبر نيك الخليج، وقال: إنها لا تهاجم.
قالت مارغوري: كلا.
كانت
منكبة على السنارة كل الوقت وهما يزرعان الطعم حتى أثناء الكلام. كانت تحب
صيد السمك. إن شئت الحقيقة كانت تحب صيد السمك برفقة نيك.
بالقرب من
الزورق قفزت سمكة سلمون كبيرة فوق سطح المياه. جدف نيك بعزم بمجداف واحد
حتى كاد القارب أن ينقلب وأوشك الطعم على أن يعوم بعيدا عن المكان المحتمل
لمرور السلمون أثناء البحث عن قوته. حينما برز ظهر السلمون من الماء قفزت
بذعر أسماك مينو(2)، ورشت الماء بشكل رذاذ كما لو أنك رميت فيه حفنة من
القذائف. سمكة سلمون أخرى حطمت القيد المائي بحثا عن غذاء في طرف القارب
الآخر.
قالت مارغوري: إنها تأكل.
قال نيك: ولكنها لا تضرب.
جدف
بالقارب ليتجاوز كلا السمكتين وهي تأكل، ثم تابع نحو رأس الخليج. لم تفتل
مارغوري البكرة حتى لامس القارب الشاطئ. سحب نيك القارب إلى الشاطئ، ومنه
أخرج إناء فيه أسماك شوكية(3) تتنفس. كان السمك الشوكي يسبح في الماء داخل
الإناء. ألقى نيك القبض على ثلاثة منها بيديه وقطع رؤوسها، ثم سلخها حينما
كانت مارغوري تتعقبها بيديها وهي في الحوض الزجاجي. أخيرا قبضت على سمكة
شوكية واحدة ، قطعت رأسها وسلختها. نظر نيك إلى سمكتها. وقال: لا يتوجب
عليك أن تقطعي الغلاصم. سوف تكون طعما مقبولا، و لكن هذا أفضل مع الغلاصم.
وضع الخطاطيف في ذيل كل سمكة شوكية مسلوخة. كان هناك خطافان موصولان على رأس كل سنارة.
بعدئذ
جدفت مارغوري بالقارب لتمر من القناة، الخيط بفمها، وعيناها على نيك، الذي
وقف على الشاطئ بيده السنارة والخيط يدور حول البكرة بعيدا.
صاح يقول: بطني هذا معقول.
ردت عليه مارغوري تقول بصوت مرتفع والخيط بين يديها: هل أفلته؟.
بالتأكيد. أفلتيه.
تخلت
مارغوري عن الخيط فوق القارب وراقبت الطعم وهو يهبط عبر طبقات المياه. ثم
عادت بالقارب وكررت المحاولة مع الخيط الثاني وبذات الطريقة. وفي كل مرة
كان نيك يثبت بنهاية السنارة حول الأخمص وتدا ثقيلا من الأخشاب التي تحملها
الأمواج ليقويها وليسمح لها بالانتصاب مائلة بزاوية خفيفة على الوتد
الصغير.
ثم كرّ الخيط الحر ليصل إلى حيث يوجد الطعم فوق القاع الرملي
للقناة، بعدئذ أغلق قفل البكرة. حينما تأتي سمكة سلمون إلى الطعم وهي تبحث
عن غذائها في الأسفل سوف تعلق به، وستسحب خيطا من البكرة وهي تتخبط، وسيصدر
عن البكرة المقفلة صوت نبضة معدنية خفيفة.
جدفت مارغوري بعد رأس
الخليج قليلا حتى لا تفسد الترتيبات. وقبضت بعزيمة قوية على المجدافين
فتحرك الزورق نحو الشاطئ. تبعت ذلك موجات بدوائر صغيرة. غادرت مارغوري
الزورق وجر نيك القارب إلى الشاطئ.
سألت مارغوري: ما الأمر يا نيك؟
قال نيك وهو يبحث عن خشب ليوقد نارا: لا أعلم.
أضرما
نارا بأخشاب خفيفة. ذهبت مارغوري إلى القارب وأحضرت لحافا. نسمات الليل
نفخت على الدخان نحو رأس الخليج، وفرشت مارغوري اللحاف بين النار والبحيرة.

جلست مارغوري على اللحاف وظهرها إلى النار وانتظرت نيك. لدى عودتها
جلس قربها على اللحاف. وراءهما كانت موجة ثانية من الأشجار تدنو قريبة من
رأس الخليج، وأمامهما كان الخليج ذاته كأنه فم يسيل منه لسان هورتونس
المائي.
لم يحل الليل تماما، وضوء النار وصل إلى طرف الماء. كان بمقدور
كليهما رؤية القصبتين الفولاذيتين وهما تميلان بزاوية فوق المياه العميقة.
والنار ألقت أشعتها على البكرة. فكت مارغوري عقدة السلة التي تحتوي على
طعام المساء.
قال نيك : ليست لدي شهية للطعام.
- هيا تعال إلى الأكل يا نيك.
- حسنا.
تناولا الطعام من غير كلام، وهما يراقبان السنارتين وضوء النار في الماء.
قال نيك: سوف يشرق القمر بدرا الليلة.
ونظر عبر الخليج إلى التلال التي كانت تنمو إلى أعلى نحو السماء. كان يعلم أن القمر يصعد الآن من خلف التلال.
قالت مارغوري بحبور: أعلم هذا.
قال نيك: لديك علم يحيط بكل شيء.
أوه، يا نيك. رجاء توقف عن ذلك. رجاء، أرجوك لا تباشر بهذه الطريقة.
قال نيك: كيف. أنت هكذا. تعلمين بكل شيء. وهذه مشكلتك. أنت تدركين مشاق علام الغيوب.
لم تجادله مارغوري.
علمتك كل شيء. أنت على يقين من هذا. بالمناسبة، هل هناك شيء لم تسمعي به حتى الآن؟.
قالت مارغوري: آه، اصمت. وانظر إلى القمر.
جلسا على اللحاف دون أن يتلامسا، وراقبا بزوغ القمر.
قالت مارغوري: لا يجب عليك أن تكون سخيفا. ما القصد من هذا.
- لا أعلم.
- طبعا أنت تعلم.
- كلا. لا أعلم.
- هيا أخبرني بما في بالك.
نظر نيك إلى القمر وهو يشرق من فوق التلال.
لم يعد الأمر مسليا بعد الآن.
كان
يخشى من النظر إلى مارغوري. ثم نظر إليها. كانت تجلس هناك وظهرها إليه.
وهكذا نظر إلى ظهرها، وقال: لم يعد في الأمر ما يسلي. لم يعد فيه شيء.
لم ترد أيضا. ولكنه تابع يقول: أشعر كما لو أن كل شيء في داخلي يتقد بنار جهنم. لا أعلم يا مارغي. لا أعلم كيف أعبر عن ذلك.
لم يتوقف عن النظر إلى ظهرها.
قالت مارغوري: أليس لديك ذرة رغبة بهذا.
قال نيك: كلا.
نهضت مارغوري. لم يتحرك نيك من مكانه هناك. و قد طمر رأسه بين يديه.
صاحت مارغوري عليه تقول: أنا ذاهبة لأمتطي القارب. بمقدورك أن تعود من وراء رأس الخليج.
قال نيك: حسنا. سوف أساعدك بدفع القارب إلى الماء.
قالت: لا لزوم لذلك.
كانت
تتمايل في القارب فوق المياه، والقمر يسطع بضيائه عليها. وعاد نيك ليستلقي
هناك ووجهه على اللحاف قريبا من النار. كان بمقدوره أن يسمع مارغوري وهي
تجدف في المياه. استلقى حيث هو لفترة طويلة. لقد استلقى حتى سمع صوت بيل في
الفضاء، كان يتجول عبر الغابة. وقد شعر به حين أصبح قرب النار. و لكن بيل
لم يقدم على المساس به.
قال بيل: هل ذهبت من غير تكدر؟.
قال نيك وهو يستلقي، ووجهه على اللحاف: آه، نعم.
- هل مرت بمنظر مشرق للذكرى؟.
- كلا. لم يكن هناك أي منظر مؤثر.
- وكيف تشعر أنت الآن؟.
- أف. اذهب يا بيل. اذهب بعيدا. ولا ترجع بسرعة.
أخذ بيل شطيرة من سلة الطعام وابتعد ليلقي نظرة على سنارات الصيد.